النقد السينمائي في زمن التفاهة
نيسان ـ نشر في 2024/11/06 الساعة 00:00
عزيز الحدادي
إن عصرنا هو عصر النقد، ويجب أن يخضع للنقد كل شيء، وإلا لن يطمع في ذلك الاحترام العميق الذي يعطيه العقل لمن تمكن من دعم حريته وممارسة مهمته بشكل عام، وبهذا المعنى أضحت السينما في صورتها الفنية أساس النضال من أجل الحرية، بدعوتها إلى الفن كمقاومة ضد العبودية والاستبداد، والدفاع عن كرامة الإنسان وحريته، فمن دون حرية لا يمكن للفن أن يمارس مهامه، والسينما ليست سوى حرية للحرية تدافع على القاعدة التالية: يتعين على كل شيء أن يخضع للحرية، ولذلك تعترف بالنقد كسؤال كانطي؛ ما الإنسان؟ وماذا يمكنني أن آمل فيه؟ وهل يمكن تحريره بالفن؟
يبدو أن السينما تأثرت كثيرا بشاعر الشعراء هوميروس، على الرغم من النقد الذي تعرض له، بل الطرد من قبل سقراط، حيث قام بتأسيس جمهوريته من دون هوميروس وجماعته، لأنه يتهمهم بالمحاكاة، بيد أن هوميروس كان هو مبدع التراجيديا، باعتبارها أداة في تجميل الوجود وصورة لمأساة الزمان وجعلهما فرجة للروح، فالإلياذة والأوديسيا يمكن اعتبارهما فيلمين رائعين من دون كاميرا ولا تقنية، هناك فقط فن التصوير، وشاعرية الصورة التي تدعو إلى عبادة الألم وهناك من المخرجين من تأثر بهوميروس ويدعو إلى عبادة الحزن.
جاء في الإلياذة: يرقد تارة على جنبه، وتارة أخرى على ظهره، وتارة ثالثة على وجهه، ثم يهب واقفا ويهيم على وجهه على شاطئ البحر، وفي نفسه ألم عميق، لا يخفف منه شيء، وتتضح الصورة أكثر حين يصور بطله بتقنية غاية في الإبداع “يغترق بكلتا يديه من الرماد الأسود ويصبه على رأسه، ثم يبكي وينوح، يتوسل ويتمرغ في الوحل، وأسفاه، لقد أنجبت بطلا من أجل الشقاء “. هكذا يتعين علينا أن نتوجه بالرجاء إلى هوميروس أن لا يصور الآلهة بهذه الصور المشوهة، إذ أن الإغراق في الكذب تكون له عواقب وخيمة على الناس، خاصة أن سقراط يعتبر الكذب جريمة، لأنه قد يؤدي إلى أفعال ضارة “انفجرت الآلهة السعيدة ضاحكة دون انقطاع عندما رأت هفايستوس يقتحم ردهة البيت، فلتجلس في صمت أيها الصديق ولتطع أوامري”، ولعل هذه الصورة، التي أثارت استغراب سقراط وجعلته المؤسس للنقد الفني.
والحال أن هوميروس لا يخجل حين قال في الأوديسة على لسان أحكم الناس أنه لا يرى في الدنيا ما هو أطيب من “موائد حفلت بالخبز واللحم والنبيذ الذي يسكبونه من آنية إلى الأقداح”، فهل تظن أن الشباب الذي يتعلم الاعتدال بسماع هذا الكلام؟ تساءل سقراط. يا له من شاعر مجنون يدعى هوميروس، لم يخجل حين قال إن الهدايا “لتغري الآلهة وتغري الملوك”، بل إنه تجرأ وقال عن زوس إنه تملكته شهوة الحب عندما رأى هيرا ما جعله لا يطيق صبرا وأراد أن يضطجع معها في غرفته “ولم يحس من قبل بهذه الرغبة”. فهذه كلها مزاعم لا يمكن أن تصدر عن الآلهة، لأنه من المستحيل صدور الشر عن الآلهة، لكن هوميروس يسمح لنفسه بقول “فحفيد زيوس كان مضطرب النفس إلى حد أنه جمع بين آفتين متعارضتين هما الجشع الوضيع والاحتقار المترفع للآلهة والناس” .
ونظرا لخطورة هذا الكلام لكل من يستمع إليه، فإن سقراط لم يكتف بنقده فقط، بل قام بطرد هوميروس من جمهوريته ووضع حد لهذا الشاعر الكذاب “فلنضع حدا لهذه الأساطير كي لا تولّد في نفوس الشباب الميل إلى الجريمة”. نحن إذن أمام نقد عنيف لشعر المحاكاة الذي تزعمه هوميروس، وأراد من خلاله نشر الأوهام في نفوس الشباب “فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن الحقيقة، فلا بد أن يهتم الفنان الحقيقي بالحقائق لا بمحاكاتها، وأن يخلف من بعده آثارا قوامها عدد كبير من الأعمال الرائعة”. وبما أن صانع الصور، قد يكون السينمائي أيضا، لا يعلم عن الوجود الحقيقي شيئا، وما يعرفه المظاهر وحدها، ومن خلالها يعتقد أنه يجعل الناس سعداء أو أشقياء “هذا هو السبب الذي يبرر لنا حظر دخوله إلى الدولة التي يحكمها قانون صالح”، ما دام قادرا على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم، فشعر المحاكاة أذى لا يفلت منه أحد، ولذلك وجب طرده.
هكذا تكون المحاكاة متهمة بتزييف الحقيقة ما يجعلها تفسد الأخلاق في الدولة، وباعثة على الشرور، ولذلك فإن النقد موجه للمحاكاة وليس للشعر بما هو شعر، تأسيسا للوجود وأوفر حظا من البراءة، والشاهد على ذلك أن سقراط سيعيد الشعراء المتمردين على هوميروس من منفاهم والسماح لهم بالإقامة في جمهوريته، ولكن بشرط أن لا يكذبوا مثل هوميروس ويتخلوا عن المحاكاة”، وحتى لا يتهمنا الشعر بالقسوة والجلافة، فلنقل له إن بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد”.
وعلى الرغم من هذا العداء القديم، فإن سقراط يعلن عن حبه للشعر الذي يسحره قائلا: إنه ليسحرني حقا”، هكذا يقترح على محاوره السماح للشعر بالدخول إلى الجمهورية، لكن بشرط أن يجمع بين بعث السرور في النفوس، والفائدة العلمية، فتساؤله ليس بريئا عندما قال “ألا يكون من الظلم كتمان أمر نؤمن بأنه الحقيقة؟”، بمعنى إخفاء الحب عن المحبوب، أو عدم الاعتراف بأن الشعر لم يسحرنا، فالمسألة لا تكمن في تحول الإنسان نحو الخير أو الشر، بل السماح لأنصار الشعر الذين يحبون القصائد الغنائية بهذه المتعة، لأن سقراط وأفلاطون شغوفان بحب الشعر، ويكتبان بطريقة شعرية “فنحن بدورنا نحب الشعر… ونحن على استعداد تام لاعتراف بفضله وباقترابه من الحقيقة”. وإذا لم يكن قريبا من الحقيقة “فسوف نفعل كالمحبين الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه، فيفترقون رغما عنهم”.
كاتب مغربي
إن عصرنا هو عصر النقد، ويجب أن يخضع للنقد كل شيء، وإلا لن يطمع في ذلك الاحترام العميق الذي يعطيه العقل لمن تمكن من دعم حريته وممارسة مهمته بشكل عام، وبهذا المعنى أضحت السينما في صورتها الفنية أساس النضال من أجل الحرية، بدعوتها إلى الفن كمقاومة ضد العبودية والاستبداد، والدفاع عن كرامة الإنسان وحريته، فمن دون حرية لا يمكن للفن أن يمارس مهامه، والسينما ليست سوى حرية للحرية تدافع على القاعدة التالية: يتعين على كل شيء أن يخضع للحرية، ولذلك تعترف بالنقد كسؤال كانطي؛ ما الإنسان؟ وماذا يمكنني أن آمل فيه؟ وهل يمكن تحريره بالفن؟
يبدو أن السينما تأثرت كثيرا بشاعر الشعراء هوميروس، على الرغم من النقد الذي تعرض له، بل الطرد من قبل سقراط، حيث قام بتأسيس جمهوريته من دون هوميروس وجماعته، لأنه يتهمهم بالمحاكاة، بيد أن هوميروس كان هو مبدع التراجيديا، باعتبارها أداة في تجميل الوجود وصورة لمأساة الزمان وجعلهما فرجة للروح، فالإلياذة والأوديسيا يمكن اعتبارهما فيلمين رائعين من دون كاميرا ولا تقنية، هناك فقط فن التصوير، وشاعرية الصورة التي تدعو إلى عبادة الألم وهناك من المخرجين من تأثر بهوميروس ويدعو إلى عبادة الحزن.
جاء في الإلياذة: يرقد تارة على جنبه، وتارة أخرى على ظهره، وتارة ثالثة على وجهه، ثم يهب واقفا ويهيم على وجهه على شاطئ البحر، وفي نفسه ألم عميق، لا يخفف منه شيء، وتتضح الصورة أكثر حين يصور بطله بتقنية غاية في الإبداع “يغترق بكلتا يديه من الرماد الأسود ويصبه على رأسه، ثم يبكي وينوح، يتوسل ويتمرغ في الوحل، وأسفاه، لقد أنجبت بطلا من أجل الشقاء “. هكذا يتعين علينا أن نتوجه بالرجاء إلى هوميروس أن لا يصور الآلهة بهذه الصور المشوهة، إذ أن الإغراق في الكذب تكون له عواقب وخيمة على الناس، خاصة أن سقراط يعتبر الكذب جريمة، لأنه قد يؤدي إلى أفعال ضارة “انفجرت الآلهة السعيدة ضاحكة دون انقطاع عندما رأت هفايستوس يقتحم ردهة البيت، فلتجلس في صمت أيها الصديق ولتطع أوامري”، ولعل هذه الصورة، التي أثارت استغراب سقراط وجعلته المؤسس للنقد الفني.
والحال أن هوميروس لا يخجل حين قال في الأوديسة على لسان أحكم الناس أنه لا يرى في الدنيا ما هو أطيب من “موائد حفلت بالخبز واللحم والنبيذ الذي يسكبونه من آنية إلى الأقداح”، فهل تظن أن الشباب الذي يتعلم الاعتدال بسماع هذا الكلام؟ تساءل سقراط. يا له من شاعر مجنون يدعى هوميروس، لم يخجل حين قال إن الهدايا “لتغري الآلهة وتغري الملوك”، بل إنه تجرأ وقال عن زوس إنه تملكته شهوة الحب عندما رأى هيرا ما جعله لا يطيق صبرا وأراد أن يضطجع معها في غرفته “ولم يحس من قبل بهذه الرغبة”. فهذه كلها مزاعم لا يمكن أن تصدر عن الآلهة، لأنه من المستحيل صدور الشر عن الآلهة، لكن هوميروس يسمح لنفسه بقول “فحفيد زيوس كان مضطرب النفس إلى حد أنه جمع بين آفتين متعارضتين هما الجشع الوضيع والاحتقار المترفع للآلهة والناس” .
ونظرا لخطورة هذا الكلام لكل من يستمع إليه، فإن سقراط لم يكتف بنقده فقط، بل قام بطرد هوميروس من جمهوريته ووضع حد لهذا الشاعر الكذاب “فلنضع حدا لهذه الأساطير كي لا تولّد في نفوس الشباب الميل إلى الجريمة”. نحن إذن أمام نقد عنيف لشعر المحاكاة الذي تزعمه هوميروس، وأراد من خلاله نشر الأوهام في نفوس الشباب “فالفن القائم على المحاكاة بعيد كل البعد عن الحقيقة، فلا بد أن يهتم الفنان الحقيقي بالحقائق لا بمحاكاتها، وأن يخلف من بعده آثارا قوامها عدد كبير من الأعمال الرائعة”. وبما أن صانع الصور، قد يكون السينمائي أيضا، لا يعلم عن الوجود الحقيقي شيئا، وما يعرفه المظاهر وحدها، ومن خلالها يعتقد أنه يجعل الناس سعداء أو أشقياء “هذا هو السبب الذي يبرر لنا حظر دخوله إلى الدولة التي يحكمها قانون صالح”، ما دام قادرا على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم، فشعر المحاكاة أذى لا يفلت منه أحد، ولذلك وجب طرده.
هكذا تكون المحاكاة متهمة بتزييف الحقيقة ما يجعلها تفسد الأخلاق في الدولة، وباعثة على الشرور، ولذلك فإن النقد موجه للمحاكاة وليس للشعر بما هو شعر، تأسيسا للوجود وأوفر حظا من البراءة، والشاهد على ذلك أن سقراط سيعيد الشعراء المتمردين على هوميروس من منفاهم والسماح لهم بالإقامة في جمهوريته، ولكن بشرط أن لا يكذبوا مثل هوميروس ويتخلوا عن المحاكاة”، وحتى لا يتهمنا الشعر بالقسوة والجلافة، فلنقل له إن بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد”.
وعلى الرغم من هذا العداء القديم، فإن سقراط يعلن عن حبه للشعر الذي يسحره قائلا: إنه ليسحرني حقا”، هكذا يقترح على محاوره السماح للشعر بالدخول إلى الجمهورية، لكن بشرط أن يجمع بين بعث السرور في النفوس، والفائدة العلمية، فتساؤله ليس بريئا عندما قال “ألا يكون من الظلم كتمان أمر نؤمن بأنه الحقيقة؟”، بمعنى إخفاء الحب عن المحبوب، أو عدم الاعتراف بأن الشعر لم يسحرنا، فالمسألة لا تكمن في تحول الإنسان نحو الخير أو الشر، بل السماح لأنصار الشعر الذين يحبون القصائد الغنائية بهذه المتعة، لأن سقراط وأفلاطون شغوفان بحب الشعر، ويكتبان بطريقة شعرية “فنحن بدورنا نحب الشعر… ونحن على استعداد تام لاعتراف بفضله وباقترابه من الحقيقة”. وإذا لم يكن قريبا من الحقيقة “فسوف نفعل كالمحبين الذين يعلمون أن حبهم لا فائدة منه، فيفترقون رغما عنهم”.
كاتب مغربي
نيسان ـ نشر في 2024/11/06 الساعة 00:00