قصصٌ عن أمواتٍ ما زالوا على قيد الحياة
نيسان ـ نشر في 2024/11/30 الساعة 00:00
اللوحة الأولى: تأبين مستمر على وجه القمر
-1-
في واحدةٍ من ليالي منعِ التجوّل، خرج الناس من بيوتهم على صوت رجلٍ يصيح في الحيّ: "انظروا نحو القمر، إنّه وجه الشيخ أحمد ياسين". كان يدور حول نفسه وهو يقول: إنَّ أحمد ياسين على القمر. كَثُر الناس في الشارع، وأخذوا يُكبّرونوهم مشدوهون نحوالسماء، حتّى ترقرقت عيونهم بالدموع ملوّحين بأيديهم نحوه.لم تكن هذه المرّة الأولى التي يرى فيها الناس شهيداً على وجه القمر. بل إنّ دماء الشهداء قد تحوّلت في الانتفاضة الأولى إلى بلّورات صغيرة من النور تحت أشجار الزيتون، حتّى أنّ الناس خرجت تحفرُ حول الشجر، كلٌّ منهم يبحث عن نقطةٍ مُضيئة من نور لشهيد كانوا قد فقدوه. لدرجة أنّ بعضهم حمل حفنةً من تراب، وعاد بها إلى الحي، وأقسم للجميع بأنها كانت مضيئة قبل أن يصل.-2-أخذتُ أراقبُ الحاجة "أم محمد" وهي جالسة قُبالة بيتها تفرطُ أعواد الملوخية. كانت عينٌ تنظرُ إلى أوراق الملوخية، وعينٌ تُبصرُ القمر، بينما تبتسم أم محمد بسعادة متناهية.كانت قد فقدت صبيّها الصغير وهو مُتّجهٌ لاستلامِ شهادته يوم إعلان نتائج الثانويّة العامة. طالعَ الصبي شهادته، فوجد أنه قد رسب في مادتين. ومن شدّة حزنه، سلك طريقاً مغايراً إلى البيت. رصدته عينُ قنّاصة الجيش، يوم كانوا يصيدون رفيف الفراش في الانتفاضة الثانية، فحصل على شهادة أخروية بدمه.حين علمت مدرسته بنبأ استشهاده، أصدرت له الإدارة شهادة تُعلن تفوّقه في جميع المواد، وذهبوا بها إلى أمّه. وهي بدورها علّقتها في صدر المنزل، قرب "البوستر" الذي حمل صورته.-3-في تلك الليلة التي رأى فيها الناس صورة أحمد ياسين على القمر، كانت أم محمد تضع شهادة ابنها قرب وعاء الملوخية.قلت لها: مساء الخير يا حجّة، هل ترين أحمد ياسين على القمر؟قالت: أهلاً يا بنيّ. الناسُ مخطئون، فالملامح التي على القمر أصغر بكثير. انظر، حدّق جيداً، ألا ترى هذه الابتسامة، إنها ابتسامة شابٍ نجح في الثانوية العامة، وينتظر الأكلة التي يحبها؛ الملوخية…اللوحة الثانية: لكن الله يعرفه
-1-
بعد كلّ صلاة جمعة، اعتاد فواز بدران أن يزور أُمَه؛ يخرجُ من جامع الروضة في الحيّ الغربيّ من مدينة طولكرم، ثمّ ينعطف يساراً في شارعٍ فرعيّ ضيّق، حيث تسكن. هناك، انتظرته سيارة "ميتسوبيشي" ممتلئة بالمتفجّرات. ما إن اقترب منها حتّى انفجرت، فطار جسده عالياً في الهواء.قال بعض شهود العيان إنّ جسده طار قريباً من أسلاك الكهرباء، بعضهم الآخر قال: بل طار فوقها. "ليس من عادة الإسرائيليين أن يغتالوا شخصاً عادياً"، قال المُجتمعون حول جثمانه. وأضاف بعضهم: فوّاز رجلٌ مسالم، من بيته إلى المحّل، ومن محلّه لبيت أمّه، وهكذا، بالكاد يتحدث مع أحد؛ لم يشارك بفعاليّات الانتفاضة، لم يحمل سلاحاً، لم يشعل إطارَ سيّارة، لم يكتب شعاراً على جدار، ولم يسمع أحدٌ هتافَ حنجرتِه. بدأوا يتهامسون: لا بدَّ أنَّ المقصود شخص آخر، من المؤكد أنَّ اغتياله جاء عن طريق الخطأ.-2-قدِم بدران إلى البلد قبل أشهر من انطلاق الانتفاضة الثانية. كان قبلها يتعلّم ويعمل في الأردن. وهناك، التقى صدفةً بمقاتلٍ شيشاني يحمل في جعبته دفتراً صغيراً، كتبَ فيه طرقاً لتصنيع المتفجرات.سأل الشيشاني الذي لا نعرف اسمه، الشهيد الذي لم نكن نعرفه: هل أُعلّمك أسرار هذا الدفتر؟أجاب بدران: وما ينفعني وأنت ترى الأوضاع هادئةً عندنا؟قال الشيشاني: وما يدريك، ربّما تشتعل يوماً فيكون لديك ما ينفع الناس.وهكذا، انكب فوّاز بدران على تعلّم أسرار الدفتر في ليالٍ معدودة. تعلّم خلالها تصنيع مادة "نيتروسورلين" التي صارت تسمَّى لاحقاً "أمّ يحيى"، مثلما حملت معظم المواد المتفجرة محليّة الصنع أسماء جداتنا اللواتي طُردن من منازلهن في النكبة.تعلّم بدران، وعاد إلى بلده.. واشتعلت الأوضاع وفق نبوءة الشيشاني.-3-في عزّ أيام اشتعالها، حمل فوّاز في الانتفاضة الثانية دفتره ولياليه المضنية وأسرار أستاذه الشيشاني، ووضعها بين يديْعبّاس السيد، القائد القسّامي المعروف وقتها، وانطلقا يُجهّزان المقاومين بمادتهما الجديدة.تزنّرت أجساد أحمد عليّان ومحمود مرمش بالمادة الجديدة، وتناثرت في شوارع نتانيا. وبعد أن تبيّنت لهم قوّة فعلها، طافت "أمّ يحيى" أنحاء فلسطين، بما تحملُه من ذاكرة بعيدة من بلاد الشيشان، لتحدث فارقاً نوعياً في أسلحة الفقراء.-4-ومضى الناس يحملون نعش الشاب العشريني الخفيّ، الذي بالكاد يعرفون اسمه، وهم يقولون: راح بالخطأ المسكين...وبينما كانوا ينزلون جثمانه إلى القبر، ظهر عبّاس السيد من بين الحشود (وكان مُطارداً في تلك الأيام)، ثمّ أخذ الميكروفون، وقال بصوتٍ مُرتفع: "من المؤمنين رجال صدقوا…"، وأخذت دموعه تُسابقه.الناسُ نيام، فإذا مات فيهم الشهيد استيقظوا. تنبّهوا فجأةً أن سراً ما خلف هذا الرجل، ودموع عبّاس كانت تقول لهم: إن كنتم لا تعرفونه، فإن الله يعرفه.متراس - Metras·الشهيد فواز بدران| وجوه فلسطيناللوحة الأخيرة: من الذي يخبرنا عن النهايات؟
-1-لا نعرف تاريخاً على وجه الدقة لانتهاء الانتفاضة الثانية. البدايات لها تواريخ، أما النهايات فعادةً ما يعيش الناس حيالها علاقة إنكار. ينسلُّ الزمن في الزمن الذي بعده دون ضجيج، فيُعرِف كلّ أحدٍ دون أن يُخبر الآخر أنّ الامور قد انتهت وعليهم مواصلة شؤونهم اليومية والمضيّ قُدماً.لكنّي أذكرُ حادثةً دون غيرها شعرتُ معها تماماً أن المرحلة التي نعرفها قد انتهت. فجرَ السابع عشر من كانون الثاني عام 2006.
-2-قُرب مقبرة طولكرم في الحيّ الجنوبيّ، كان ثمّة بيتٌ يؤوي آخر المطاردين. شابٌ في أوائل العشرينات من العمر، شديد الخجل وقليل الكلام كما يصفه رفاقه، كان قد توارى عن الأنظار لأربعة أعوام في بيتٍ لا يبعد إلا أمتاراً عن بيت والديه، لعلّ قلبهم المشغول يبرد بطيفه.ذات يوم، اعتقلت "إسرائيل" الشاب الذي ساعده في استئجار المكان، وعذّبته بقسوة. صمد لأيام حتى يُعطي المطارد فرصةً لتغيير مكانه… ثمّ اعترف.لكنّ صديقنا المطارد كانت لديه حساباتٌ أخرى، ربّما فكّر؛ أين أذهب؟ لم يعد هناك مكان، لم تعد الجبال آمنة، ولم تعد الناس مُتحمسةً للتضحية بإيواء المطاردين في بيوتها، ثم إن جنة الله أكثر رحابة من أرضه. أجرى حسبته سريعاً وأخذ قراره.كان اسمه ثابت عيادة، وكثيراً ما يُملي الاسم على صاحبه معناه. حمل سلاحين من نوع كلاشينكوف بكلتا يديه، وجلس أمام الباب لأيام، ينتظر قدومهم وحده.زحفت نحو البيت عشرات الآليات العسكرية مدعومةً بالمروحيات، كسروا الباب متوقعين أنه قد غادر مكانه، لكنّه فاجأهم… فتح عليهم النار من الرشاشين، فأصاب بعضهم وأردوه قتيلاً.-3-أمام نعشه المُسجّى وقفت أمه تُعاتبه: "ليه يَمّا ما خبرتني إنك ساكن جنبي، ليه ما خليتني أسلم عليك". لكنّه كما وصفه رفاقه، كان شديد الخجل وقليل الكلام، فلم يُجبها.خرجت جنازة مهيبة تشيعه، هتف خلالها المتظاهرون: "الانتقام الانتقام يا كتائب القسّام". لكنّ الهتاف كان فاتراً، فعملياً - في ذلك العام- لم يعد هناك كتائب قسام في الضفة، كان هو كتائب القسام، وكانت الفصائل تتهيأ للعرس الديمقراطي، ولذا من المُستبعد أن يسعى أحدٌ لتعكير الأجواء الانتخابية.طوت رفاته المقبرة التي اختبأ بقربها، وعاد المشيعون كلّ واحدٍ إلى شأنه. كان السابع عشر من كانون الثاني هو تاريخ انتهاء الانتفاضة الثانية.متراس - طارق خميس
-1-
في واحدةٍ من ليالي منعِ التجوّل، خرج الناس من بيوتهم على صوت رجلٍ يصيح في الحيّ: "انظروا نحو القمر، إنّه وجه الشيخ أحمد ياسين". كان يدور حول نفسه وهو يقول: إنَّ أحمد ياسين على القمر. كَثُر الناس في الشارع، وأخذوا يُكبّرونوهم مشدوهون نحوالسماء، حتّى ترقرقت عيونهم بالدموع ملوّحين بأيديهم نحوه.لم تكن هذه المرّة الأولى التي يرى فيها الناس شهيداً على وجه القمر. بل إنّ دماء الشهداء قد تحوّلت في الانتفاضة الأولى إلى بلّورات صغيرة من النور تحت أشجار الزيتون، حتّى أنّ الناس خرجت تحفرُ حول الشجر، كلٌّ منهم يبحث عن نقطةٍ مُضيئة من نور لشهيد كانوا قد فقدوه. لدرجة أنّ بعضهم حمل حفنةً من تراب، وعاد بها إلى الحي، وأقسم للجميع بأنها كانت مضيئة قبل أن يصل.-2-أخذتُ أراقبُ الحاجة "أم محمد" وهي جالسة قُبالة بيتها تفرطُ أعواد الملوخية. كانت عينٌ تنظرُ إلى أوراق الملوخية، وعينٌ تُبصرُ القمر، بينما تبتسم أم محمد بسعادة متناهية.كانت قد فقدت صبيّها الصغير وهو مُتّجهٌ لاستلامِ شهادته يوم إعلان نتائج الثانويّة العامة. طالعَ الصبي شهادته، فوجد أنه قد رسب في مادتين. ومن شدّة حزنه، سلك طريقاً مغايراً إلى البيت. رصدته عينُ قنّاصة الجيش، يوم كانوا يصيدون رفيف الفراش في الانتفاضة الثانية، فحصل على شهادة أخروية بدمه.حين علمت مدرسته بنبأ استشهاده، أصدرت له الإدارة شهادة تُعلن تفوّقه في جميع المواد، وذهبوا بها إلى أمّه. وهي بدورها علّقتها في صدر المنزل، قرب "البوستر" الذي حمل صورته.-3-في تلك الليلة التي رأى فيها الناس صورة أحمد ياسين على القمر، كانت أم محمد تضع شهادة ابنها قرب وعاء الملوخية.قلت لها: مساء الخير يا حجّة، هل ترين أحمد ياسين على القمر؟قالت: أهلاً يا بنيّ. الناسُ مخطئون، فالملامح التي على القمر أصغر بكثير. انظر، حدّق جيداً، ألا ترى هذه الابتسامة، إنها ابتسامة شابٍ نجح في الثانوية العامة، وينتظر الأكلة التي يحبها؛ الملوخية…اللوحة الثانية: لكن الله يعرفه
-1-
بعد كلّ صلاة جمعة، اعتاد فواز بدران أن يزور أُمَه؛ يخرجُ من جامع الروضة في الحيّ الغربيّ من مدينة طولكرم، ثمّ ينعطف يساراً في شارعٍ فرعيّ ضيّق، حيث تسكن. هناك، انتظرته سيارة "ميتسوبيشي" ممتلئة بالمتفجّرات. ما إن اقترب منها حتّى انفجرت، فطار جسده عالياً في الهواء.قال بعض شهود العيان إنّ جسده طار قريباً من أسلاك الكهرباء، بعضهم الآخر قال: بل طار فوقها. "ليس من عادة الإسرائيليين أن يغتالوا شخصاً عادياً"، قال المُجتمعون حول جثمانه. وأضاف بعضهم: فوّاز رجلٌ مسالم، من بيته إلى المحّل، ومن محلّه لبيت أمّه، وهكذا، بالكاد يتحدث مع أحد؛ لم يشارك بفعاليّات الانتفاضة، لم يحمل سلاحاً، لم يشعل إطارَ سيّارة، لم يكتب شعاراً على جدار، ولم يسمع أحدٌ هتافَ حنجرتِه. بدأوا يتهامسون: لا بدَّ أنَّ المقصود شخص آخر، من المؤكد أنَّ اغتياله جاء عن طريق الخطأ.-2-قدِم بدران إلى البلد قبل أشهر من انطلاق الانتفاضة الثانية. كان قبلها يتعلّم ويعمل في الأردن. وهناك، التقى صدفةً بمقاتلٍ شيشاني يحمل في جعبته دفتراً صغيراً، كتبَ فيه طرقاً لتصنيع المتفجرات.سأل الشيشاني الذي لا نعرف اسمه، الشهيد الذي لم نكن نعرفه: هل أُعلّمك أسرار هذا الدفتر؟أجاب بدران: وما ينفعني وأنت ترى الأوضاع هادئةً عندنا؟قال الشيشاني: وما يدريك، ربّما تشتعل يوماً فيكون لديك ما ينفع الناس.وهكذا، انكب فوّاز بدران على تعلّم أسرار الدفتر في ليالٍ معدودة. تعلّم خلالها تصنيع مادة "نيتروسورلين" التي صارت تسمَّى لاحقاً "أمّ يحيى"، مثلما حملت معظم المواد المتفجرة محليّة الصنع أسماء جداتنا اللواتي طُردن من منازلهن في النكبة.تعلّم بدران، وعاد إلى بلده.. واشتعلت الأوضاع وفق نبوءة الشيشاني.-3-في عزّ أيام اشتعالها، حمل فوّاز في الانتفاضة الثانية دفتره ولياليه المضنية وأسرار أستاذه الشيشاني، ووضعها بين يديْعبّاس السيد، القائد القسّامي المعروف وقتها، وانطلقا يُجهّزان المقاومين بمادتهما الجديدة.تزنّرت أجساد أحمد عليّان ومحمود مرمش بالمادة الجديدة، وتناثرت في شوارع نتانيا. وبعد أن تبيّنت لهم قوّة فعلها، طافت "أمّ يحيى" أنحاء فلسطين، بما تحملُه من ذاكرة بعيدة من بلاد الشيشان، لتحدث فارقاً نوعياً في أسلحة الفقراء.-4-ومضى الناس يحملون نعش الشاب العشريني الخفيّ، الذي بالكاد يعرفون اسمه، وهم يقولون: راح بالخطأ المسكين...وبينما كانوا ينزلون جثمانه إلى القبر، ظهر عبّاس السيد من بين الحشود (وكان مُطارداً في تلك الأيام)، ثمّ أخذ الميكروفون، وقال بصوتٍ مُرتفع: "من المؤمنين رجال صدقوا…"، وأخذت دموعه تُسابقه.الناسُ نيام، فإذا مات فيهم الشهيد استيقظوا. تنبّهوا فجأةً أن سراً ما خلف هذا الرجل، ودموع عبّاس كانت تقول لهم: إن كنتم لا تعرفونه، فإن الله يعرفه.متراس - Metras·الشهيد فواز بدران| وجوه فلسطيناللوحة الأخيرة: من الذي يخبرنا عن النهايات؟
-1-لا نعرف تاريخاً على وجه الدقة لانتهاء الانتفاضة الثانية. البدايات لها تواريخ، أما النهايات فعادةً ما يعيش الناس حيالها علاقة إنكار. ينسلُّ الزمن في الزمن الذي بعده دون ضجيج، فيُعرِف كلّ أحدٍ دون أن يُخبر الآخر أنّ الامور قد انتهت وعليهم مواصلة شؤونهم اليومية والمضيّ قُدماً.لكنّي أذكرُ حادثةً دون غيرها شعرتُ معها تماماً أن المرحلة التي نعرفها قد انتهت. فجرَ السابع عشر من كانون الثاني عام 2006.
-2-قُرب مقبرة طولكرم في الحيّ الجنوبيّ، كان ثمّة بيتٌ يؤوي آخر المطاردين. شابٌ في أوائل العشرينات من العمر، شديد الخجل وقليل الكلام كما يصفه رفاقه، كان قد توارى عن الأنظار لأربعة أعوام في بيتٍ لا يبعد إلا أمتاراً عن بيت والديه، لعلّ قلبهم المشغول يبرد بطيفه.ذات يوم، اعتقلت "إسرائيل" الشاب الذي ساعده في استئجار المكان، وعذّبته بقسوة. صمد لأيام حتى يُعطي المطارد فرصةً لتغيير مكانه… ثمّ اعترف.لكنّ صديقنا المطارد كانت لديه حساباتٌ أخرى، ربّما فكّر؛ أين أذهب؟ لم يعد هناك مكان، لم تعد الجبال آمنة، ولم تعد الناس مُتحمسةً للتضحية بإيواء المطاردين في بيوتها، ثم إن جنة الله أكثر رحابة من أرضه. أجرى حسبته سريعاً وأخذ قراره.كان اسمه ثابت عيادة، وكثيراً ما يُملي الاسم على صاحبه معناه. حمل سلاحين من نوع كلاشينكوف بكلتا يديه، وجلس أمام الباب لأيام، ينتظر قدومهم وحده.زحفت نحو البيت عشرات الآليات العسكرية مدعومةً بالمروحيات، كسروا الباب متوقعين أنه قد غادر مكانه، لكنّه فاجأهم… فتح عليهم النار من الرشاشين، فأصاب بعضهم وأردوه قتيلاً.-3-أمام نعشه المُسجّى وقفت أمه تُعاتبه: "ليه يَمّا ما خبرتني إنك ساكن جنبي، ليه ما خليتني أسلم عليك". لكنّه كما وصفه رفاقه، كان شديد الخجل وقليل الكلام، فلم يُجبها.خرجت جنازة مهيبة تشيعه، هتف خلالها المتظاهرون: "الانتقام الانتقام يا كتائب القسّام". لكنّ الهتاف كان فاتراً، فعملياً - في ذلك العام- لم يعد هناك كتائب قسام في الضفة، كان هو كتائب القسام، وكانت الفصائل تتهيأ للعرس الديمقراطي، ولذا من المُستبعد أن يسعى أحدٌ لتعكير الأجواء الانتخابية.طوت رفاته المقبرة التي اختبأ بقربها، وعاد المشيعون كلّ واحدٍ إلى شأنه. كان السابع عشر من كانون الثاني هو تاريخ انتهاء الانتفاضة الثانية.متراس - طارق خميس
نيسان ـ نشر في 2024/11/30 الساعة 00:00