لماذا أخفقت قراءات المشهد السوري؟
نيسان ـ نشر في 2024/12/22 الساعة 00:00
حتى لتركيا الدولة التي بدت وكأنها طرف يحرك جانبًا من المشهد في الشمال السوري فإن النجاح الواسع لقوات هيئة تحرير الشام يفتح بابًا لقراءة الإخفاق في التنبؤ تجاه الأحداث التي تتابعت في سوريا في الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر، وصولًا إلى سقوط نظام الرئيس الأسد في الثامن من الشهر الجاري.
لتنظيم القراءة، فإن الحديث عن نظام الرئيس بشار الأسد يختلف بصورة جذرية عن مقولة النظام السوري التي كانت تستخدم بصورة واسعة، فهو نظام يعيش أزمة طاحنة منذ أشهر، وجزء منها كان بسبب سياسة الرئيس والحلقة الضيقة التي تحاوطه، حيث أهمل أن يقوم بأي خطوات جدية أو فعلية لإنجاح عملية تعويم النظام تجاه المباشرة في حل سياسي في بلاده، ولأن الأردن كانت جزءًا من سياسة التعويم التي تواصلت لأشهر، فإنها وجدت الحوار مع الإيرانيين مباشرةً أكثر جدوى وجدية من التحدث مع أركان النظام في سوريا والذي يبدو أنه لم يدرك أن العالم قطع ربع قرن كامل من الألفية الثالثة، وأن خطاب التسويف والمماطلة والاختباء في الحيل الإنشائية والبلاغية المتوارث منذ سبعينيات القرن الماضي لا يتجاوب مع متطلبات العصر.
ما الذي وجدته الأطراف التي سعت إلى تأهيل النظام لحل سياسي؟ عودة اللاجئين، دائمًا ما زعم النظام أن الظروف غير مهيأة، وكان من يتحدثون مع دمشق يواجهون متطلبات وفرضيات سورية وكأنهم الطرف الذي أدى إلى مشكلة اللاجئين، وبالنسبة للمخدرات بقيت الإجابات عائمة وكأنه لا توجد بلد مجاورة تتحمل تكلفة باهظة للحيولة دون دخول السموم إلى أرضيها وهي البلد ذات نسبة الشباب المرتفعة، أما السعي لمصالحة وطنية، فبدا أنه يقع على أذن غير واعية، ورب مستمع والقلب في صمم.
الإشارة التي أفلتت وكان يجب أن تؤشر إلى نهاية العمر الافتراضي للنظام أتت بعد حادثة اغتيال السيد حسن نصر الله تمثلت في تضييق قوى الأمن السورية على أية مظاهر للتضامن أو الحزن قي دمشق، وأذكر أنني تساءلت عن حالة الصمت التي ترافقت مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على مواقع في سوريا ولبنان، فكانت الإجابة من أحد المطلين على المشهد السوري، أن النظام لا يمكنه أن يتحرك فهو لا يمتلك الفشك، ويقصد الذخيرة، وبالفعل كانت قراءات الوضع الاقتصادي في سوريا تثير التشاؤم، وتؤشر إلى وجود أزمة عميقة في السيولة القائمة، وهو ما تأكد بعد دخول المصرف المركزي ليتضح أن الاحتياطيات كانت في حدود 200 مليون دولار أمريكي، و26 طنًا من الذهب، وهو ما لا يكفي في حال تخصيص جميع المبالغ المتوفرة لتمويل الحرب لمدة أسبوع.
الانفصام بين الجيش والرئاسة في سوريا أخذ يتمدد، فبعد كثير من التضحيات التي بذلها الجنود السوريون، من منتسبي الجيش أو المجندين للوصول إلى حالة معقولة يمكن أن تباشرعلى أساسها القيادة السياسية طريق الحل السياسي، وجد الجيش نفسه أمام احتمالات حرب جديدة بينما بقي النظام في حالة الإنكار المتصلة، ولأن الجيش لم يكن مؤهلًا ماديًا أو معنويًا لصراع جديد ممتد مع ميليشيات عسكرية مدربة ومتأهبة وتمتلك القناعات الأيديولوجية، فالحلفاء وجدوا أنفسهم غير مضطرين لخوض المعركة نيابة عن الجيش، ولمصلحة بشار الأسد الذي وجده حتى أقرب حلفائه منفصلًا عما يجري، يستهلك الوقت من غير طائل، فلا تمكن من استثمار جهود الدول العربية لاستعادة النظام مع الشروط المتعلقة باللاجئين والمخدرات، ولا أبدى تجاوبًا لائقًا في مرحلة كانت إيران بوصفها الحليف الرئيسي تعاني من ضربات وانتكاسات متتالية.
لم تكن هيئة تحرير الشام حتى في أفضل السيناريوهات تتخيل نجاحًا مبهرًا كالذي حققته، لتتقدم لدمشق من غير مقاومة، وتكتشف أن كل المقولات حول إعادة التمركز حول العاصمة للدخول في معركة طاحنة لم تكن سوى استهلاكًا ينبني على التوقعات لا الوقائع، وبذلك، بدأت الهيئة تدخل بنفس خطتها في حلب لتحاول تطبيقها في دمشق، وتحقق نجاحًا مبدئيًا نتيجة حالة السعادة التي انتشى بها الشارع السوري بعد سقوط الأسد لتصبح دافعًا لتأجيل الأسئلة المهمة وحتى العاجل منها.
الإخفاق في القراءة أتى نتيجة عدم توقع حالة العجز في قدرة الرئيس الأسد على إدارة حتى حلقته المقربة، وقراره بالفرار بعيدًا عن أي ترتيبات أو تكليفات تشكل الحد الأدنى من معركة حول دمشق كان يمكن أن تسفر عن واقع جديد يجري التقاسم السياسي على أساسه بعد دفع النظام للتخلي عن مواقفه الإنكارية المتعنتة في الكثير من الملفات، فكانت الخزائن الخاوية، وافتراض تضحية لا نهائية ومفتوحة من الإيرانيين الذين بدأت تساورهم شكوك حول العلاقة مع نظام الأسد وعائدها الحقيقي، لدرجة أن وصفته بعض المصادر بالخائن للإيرانيين الذين يبدون محبطين حاليًا إذ لن تلبث الأحداث أن تدفع بمحاسبة واسعة حول الجدوى من إهدار عشرات المليارات في بلد يعاني من الضائقة الاقتصادية على تحالفات إقليمية بدت في النهاية هشة وضعيفة، ولا تتمتع بالحد الأدنى من المرونة والإنتاجية اللازمين من أجل المناورة السياسية.
تفكك النظام السوري حول الرئيس، ولم يصبح الشخصية التي يمكن أن يستمع لها المقربون، وكان يستند على تاريخ طويل من السيطرة الكاملة على سوريا وكأنها عصا سليمان التي أكلها الدود، وفي الوقت الذي كان الجميع يحرص على بداية حل سياسي مناسب كان الأسد يفكر في الحل الشخصي للغاية، لدرجة أنه لم يشرك شقيقه وشريكه في الحكم في تفاصيله.
قراءة النظام السوري الجديد متعذرة إلى حد بعيد، ولكن لا يجب الاكتفاء بالقراءة، ففي بلد بأهمية سوريا وموقعه، تصبح المشاركة في الكتابة مطلوبة، وجزء من شخصية النظام الجديد ستتشكل في قدرته على إظهار قدر حقيقي من الاحترام للآخرين وتفهم مصالحهم وأولوياتهم، وأن يخرج من حالة الانفصال الوجودي التي شابت السنوات الأخيرة من حياة نظام الأسد.
الرأي
لتنظيم القراءة، فإن الحديث عن نظام الرئيس بشار الأسد يختلف بصورة جذرية عن مقولة النظام السوري التي كانت تستخدم بصورة واسعة، فهو نظام يعيش أزمة طاحنة منذ أشهر، وجزء منها كان بسبب سياسة الرئيس والحلقة الضيقة التي تحاوطه، حيث أهمل أن يقوم بأي خطوات جدية أو فعلية لإنجاح عملية تعويم النظام تجاه المباشرة في حل سياسي في بلاده، ولأن الأردن كانت جزءًا من سياسة التعويم التي تواصلت لأشهر، فإنها وجدت الحوار مع الإيرانيين مباشرةً أكثر جدوى وجدية من التحدث مع أركان النظام في سوريا والذي يبدو أنه لم يدرك أن العالم قطع ربع قرن كامل من الألفية الثالثة، وأن خطاب التسويف والمماطلة والاختباء في الحيل الإنشائية والبلاغية المتوارث منذ سبعينيات القرن الماضي لا يتجاوب مع متطلبات العصر.
ما الذي وجدته الأطراف التي سعت إلى تأهيل النظام لحل سياسي؟ عودة اللاجئين، دائمًا ما زعم النظام أن الظروف غير مهيأة، وكان من يتحدثون مع دمشق يواجهون متطلبات وفرضيات سورية وكأنهم الطرف الذي أدى إلى مشكلة اللاجئين، وبالنسبة للمخدرات بقيت الإجابات عائمة وكأنه لا توجد بلد مجاورة تتحمل تكلفة باهظة للحيولة دون دخول السموم إلى أرضيها وهي البلد ذات نسبة الشباب المرتفعة، أما السعي لمصالحة وطنية، فبدا أنه يقع على أذن غير واعية، ورب مستمع والقلب في صمم.
الإشارة التي أفلتت وكان يجب أن تؤشر إلى نهاية العمر الافتراضي للنظام أتت بعد حادثة اغتيال السيد حسن نصر الله تمثلت في تضييق قوى الأمن السورية على أية مظاهر للتضامن أو الحزن قي دمشق، وأذكر أنني تساءلت عن حالة الصمت التي ترافقت مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على مواقع في سوريا ولبنان، فكانت الإجابة من أحد المطلين على المشهد السوري، أن النظام لا يمكنه أن يتحرك فهو لا يمتلك الفشك، ويقصد الذخيرة، وبالفعل كانت قراءات الوضع الاقتصادي في سوريا تثير التشاؤم، وتؤشر إلى وجود أزمة عميقة في السيولة القائمة، وهو ما تأكد بعد دخول المصرف المركزي ليتضح أن الاحتياطيات كانت في حدود 200 مليون دولار أمريكي، و26 طنًا من الذهب، وهو ما لا يكفي في حال تخصيص جميع المبالغ المتوفرة لتمويل الحرب لمدة أسبوع.
الانفصام بين الجيش والرئاسة في سوريا أخذ يتمدد، فبعد كثير من التضحيات التي بذلها الجنود السوريون، من منتسبي الجيش أو المجندين للوصول إلى حالة معقولة يمكن أن تباشرعلى أساسها القيادة السياسية طريق الحل السياسي، وجد الجيش نفسه أمام احتمالات حرب جديدة بينما بقي النظام في حالة الإنكار المتصلة، ولأن الجيش لم يكن مؤهلًا ماديًا أو معنويًا لصراع جديد ممتد مع ميليشيات عسكرية مدربة ومتأهبة وتمتلك القناعات الأيديولوجية، فالحلفاء وجدوا أنفسهم غير مضطرين لخوض المعركة نيابة عن الجيش، ولمصلحة بشار الأسد الذي وجده حتى أقرب حلفائه منفصلًا عما يجري، يستهلك الوقت من غير طائل، فلا تمكن من استثمار جهود الدول العربية لاستعادة النظام مع الشروط المتعلقة باللاجئين والمخدرات، ولا أبدى تجاوبًا لائقًا في مرحلة كانت إيران بوصفها الحليف الرئيسي تعاني من ضربات وانتكاسات متتالية.
لم تكن هيئة تحرير الشام حتى في أفضل السيناريوهات تتخيل نجاحًا مبهرًا كالذي حققته، لتتقدم لدمشق من غير مقاومة، وتكتشف أن كل المقولات حول إعادة التمركز حول العاصمة للدخول في معركة طاحنة لم تكن سوى استهلاكًا ينبني على التوقعات لا الوقائع، وبذلك، بدأت الهيئة تدخل بنفس خطتها في حلب لتحاول تطبيقها في دمشق، وتحقق نجاحًا مبدئيًا نتيجة حالة السعادة التي انتشى بها الشارع السوري بعد سقوط الأسد لتصبح دافعًا لتأجيل الأسئلة المهمة وحتى العاجل منها.
الإخفاق في القراءة أتى نتيجة عدم توقع حالة العجز في قدرة الرئيس الأسد على إدارة حتى حلقته المقربة، وقراره بالفرار بعيدًا عن أي ترتيبات أو تكليفات تشكل الحد الأدنى من معركة حول دمشق كان يمكن أن تسفر عن واقع جديد يجري التقاسم السياسي على أساسه بعد دفع النظام للتخلي عن مواقفه الإنكارية المتعنتة في الكثير من الملفات، فكانت الخزائن الخاوية، وافتراض تضحية لا نهائية ومفتوحة من الإيرانيين الذين بدأت تساورهم شكوك حول العلاقة مع نظام الأسد وعائدها الحقيقي، لدرجة أن وصفته بعض المصادر بالخائن للإيرانيين الذين يبدون محبطين حاليًا إذ لن تلبث الأحداث أن تدفع بمحاسبة واسعة حول الجدوى من إهدار عشرات المليارات في بلد يعاني من الضائقة الاقتصادية على تحالفات إقليمية بدت في النهاية هشة وضعيفة، ولا تتمتع بالحد الأدنى من المرونة والإنتاجية اللازمين من أجل المناورة السياسية.
تفكك النظام السوري حول الرئيس، ولم يصبح الشخصية التي يمكن أن يستمع لها المقربون، وكان يستند على تاريخ طويل من السيطرة الكاملة على سوريا وكأنها عصا سليمان التي أكلها الدود، وفي الوقت الذي كان الجميع يحرص على بداية حل سياسي مناسب كان الأسد يفكر في الحل الشخصي للغاية، لدرجة أنه لم يشرك شقيقه وشريكه في الحكم في تفاصيله.
قراءة النظام السوري الجديد متعذرة إلى حد بعيد، ولكن لا يجب الاكتفاء بالقراءة، ففي بلد بأهمية سوريا وموقعه، تصبح المشاركة في الكتابة مطلوبة، وجزء من شخصية النظام الجديد ستتشكل في قدرته على إظهار قدر حقيقي من الاحترام للآخرين وتفهم مصالحهم وأولوياتهم، وأن يخرج من حالة الانفصال الوجودي التي شابت السنوات الأخيرة من حياة نظام الأسد.
الرأي
نيسان ـ نشر في 2024/12/22 الساعة 00:00