معركة الوعي: فلسفة النصر في خضم 'طوفان الأقصى'

نيسان ـ نشر في 2025/01/02 الساعة 00:00
كتب ثائر أبو عياس: في السابع من أكتوبر 2023، شهد العالم حدثًا فارقًا في تاريخ الصراع الفلسطيني- "الإسرائيلي"، وهو العملية التي أطلق عليه اسم "طوفان الأقصى". كان لهذا الحدث تأثير عميق ليس فقط على المستوى العسكري والسياسي، بل على المستوى النفسي والثقافي أيضًا. ففي قلب هذا الصراع، لا تقتصر المعركة على الأرض أو على الأسلحة فحسب، بل تمتد إلى عقول البشر وقلوبهم. هذه "معركة الوعي" قد تكون من أهم الإنجازات التي حققتها المقاومة الفلسطينية في هذا الصراع، إذ تمكّنوا من إعادة تشكيل الصورة الذهنية للمعركة والنضال الفلسطيني في ذهن العالم، بل وفي قلب الاحتلال نفسه.
منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، سعى الاحتلال إلى إعادة صياغة صورة المقاوم الفلسطيني في عيون العالم. كانت الحرب الإعلامية على أشدها، حيث كان الهدف هو محو صورة المقاومة الفلسطينية من الوعي الجمعي، واستبدالها بصورة المجازر والمذابح. لكن في الواقع، استراتيجيات الاحتلال الإعلامية لم تفضِ إلى تحقيق هدفها، بل على العكس، كانت الصورة التي رُسِمت للمقاوم الفلسطيني صورة البطل المدافع عن وطنه، بل والمجاهد الذي يضحي بكل ما لديه في سبيل الحرية والكرامة.
الاحتلال في سعيه لتغيير هذه الصورة عمد إلى تسليط الضوء على ما أسماه "المجازر" في غزة، محاولًا بذلك خلق صورة ذهنية من العنف الوحشي. ومع ذلك، نجحت المقاومة في توجيه دفة هذه الحرب النفسية إلى اتجاه مغاير. فجاءت مشاهد المقاومة الفلسطينية التي عرضت البطولات والتضحيات، في محاكاة لبطل شعبي، يجسد حلم الحرية وتحرير الأرض.
في هذه المعركة المعقدة، لا تقتصر المسألة على القتال العسكري أو السياسي، بل هي أيضًا صراع فلسفي عميق حول "الوجود" و"الهوية". الفلسفة هنا تتعلق بتساؤلات كبرى عن الحق في الحياة، والكرامة الإنسانية، وعن ماهية النصر الحقيقي. السؤال الذي تطرحه هذه المعركة هو: "ما هو النصر؟" هل هو مجرد التسلح بالأسلحة، أم أن النصر يكمن في تصحيح الوعي الجماعي؟
قد نرى أن الفلسفة الفلسطينية، عبر عشرات السنين من الصراع، قد صنعت نوعًا من الوعي الجماعي الجديد الذي يعيد فهم النصر، لا من منظور الانتصار العسكري التقليدي، بل من خلال الحفاظ على الهوية والصمود. هذا الوعي الفلسفي يجعل النصر لا يتحقق في الهزيمة العسكرية فقط، بل في استعادة الوعي بالحق والعدل، وفي الدفاع عن الأرض والإنسان.
هذه الفلسفة قد تتجلى في تلك اللحظة التي يختار فيها المقاوم الفلسطيني أن يواجه الموت بشجاعة، مدافعًا عن حقه في الحياة والحرية. هذا الفعل هو بحد ذاته نصر، لأنه يعيد للأمة احترامها لذاتها، ويبعث في نفوس أبنائها روح الأمل والقدرة على الصمود.
عندما يواجه الاحتلال مقاومة متزايدة ووعيًا متقدماً، يتبدد مفعول استراتيجية "الخوف" التي اعتمد عليها لفترة طويلة. المعركة الكبرى التي يخوضها الاحتلال ليست مع المقاومة المسلحة فقط، بل مع عقول الناس. فمحاولة زرع الخوف من العقوبة - سواء كان السجن أو الموت - هي استراتيجية تهدف إلى سحق الروح الفلسطينية من خلال فرض الاعتقاد بأن "كل مقاوم سيكون مصيره السجن أو القبر". ومع ذلك، فكلما أصر المقاوم على موقفه، زادت قوة الوعي الجمعي بالحقوق.
يبدو أن الوعي الذي تراكم عبر السنوات قد بدأ يتسرب إلى عقول الجميع: أن الموت أو السجن ليسا عقوبة بل هما جزء من نضال طويل من أجل الحرية. وبدلاً من أن يكون ذلك تهديدًا، أصبح رمزًا للبطولة والتضحية، وهو ما عزز صورة المقاوم الفلسطيني بصفته صاحب حق لا يقبل المساومة.
التحدي الأكبر في معركة الوعي هو فهم حقيقة النصر. ما يمكن أن نعتبره انتصارًا على الأرض لا يحدث في أعماق هذه المعركة، طالما لا نحافظ على الأمل، وبالتمسك بالهوية، وباستمرارية المقاومة أمام محاولات الذوبان والإبادة الثقافية. فما قد يبدو هزيمة على مستوى الأرض قد يتحول إلى نصر غير متوقع في مجال الوعي.
الاحتلال يعتمد على تأليب المجتمع الدولي ضد القضية الفلسطينية، ولكنه يواجه صعوبة في محو فكرة النضال الفلسطيني. ومع تصاعد الصراع، ظهر تحوّل في إدراك الشعوب حول حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال. وهذا التحول يعكس قوة الوعي الذي بدأ يرسخ فكرة النصر الفلسطيني في ذهنية العالم، بعيدًا عن مفاهيم القوة العسكرية فقط.
وفي النهاية، تبقى معركة الوعي هي معركة مستمرة، معركة تتطلب منا الصبر والحكمة. فالنصر في فلسفة المقاومة لا يعني فقط هزيمة الاحتلال، بل هو تحول جوهري في الوعي الجمعي. وعليه، يبقى الأمل المتجدد هو القوة الدافعة لهذه المقاومة.
من خلال هذه المعركة الفكرية، يمكن للشعب الفلسطيني أن يحافظوا على صورة النصر، ليس فقط كحق في الأرض، بل كحق في الوجود، في الهوية، في الكرامة الإنسانية. النصر هو في أن نبقى، في أن نُصر على مقاومة التغيير القسري للوعي الجماعي. النصر ليس فقط في ساحة المعركة فقط، بل في عقولنا وقلوبنا، وفي تلك اللحظة التي يدرك فيها العالم أننا لم نعد مجرد ضحايا، بل أبطال صامدون في مواجهة أعتى الأعداء.
    نيسان ـ نشر في 2025/01/02 الساعة 00:00