صور من غزة

اسماعيل الشريف
نيسان ـ نشر في 2025/01/17 الساعة 00:00
في غزة، يطير الأطفال قبل أن يتعلموا الزحف أو الخطو على الأرض. الأطفال يُستشهدون، وأرواحهم تُحلّق في السماء. أراهم كل فجرٍ على نافذتي، يعانقون السماء مع صوت الأذان، كأنهم نجوم أضاءت ليلنا العربي الحزين.
·أهل غزة في الحرب إما شهداء يعانقون المجد، أو مقاتلون يذودون عن كرامتهم. وفي السلم، ينهضون من تحت الركام كأنهم طائر الفينيق، ليصبحوا جميعًا بُنَاةً يعيدون بناء ما دمّره الاحتلال، حجرا فوق حجر، وأملًا فوق أمل.
·في غزة، عندما تروي الأم قصص المساء لأطفالها، لا حاجة لها لأن تطفئ الأنوار، إذ لا كهرباء هناك أصلاً. السماء وحدها تشتعل بالنيران التي يصبها الاحتلال، تضيء العتمة بوهج الموت. في تلك الظلمة، تجلس الأم تتأمل وجوه أطفالها الصغار، تحاول أن ترسم ملامحهم في ذاكرتها، فقد لا تجدهم في الصباح، أو ربما هي نفسها لن تكون هناك لتراهم.
·في غزة، لا وقت للحزن أو البكاء على الشهداء. تسرقك الحياة القاسية إلى رحلة بحث عن ماء للوضوء لتصلي عليهم، وعن قبر يحتضن أجسادهم الطاهرة. كأنما حتى الموت في غزة رحلة شاقة لا تنتهي.
·رجال وشباب غزة لا يمسحون دموعهم، فهي شرفٌ لا يُخفى. تصدمك الحقيقة حين تدرك أن وراء هذه الرقة تكمن أسودٌ تزأر، تسطّر البطولات بجرأة لا مثيل لها، معيدة تعريف البطولة.
·تسأل الطفلة والدها: «لماذا لم تعد أختي تلعب معنا؟» يمسح الأب وجه طفلته بحنان ويجيب: «لقد أصبحت طائرًا في الجنة.» تفرد الطفلة يديها الصغيرة، تحاول الطيران وتقول بحماس: «وأنا أيضًا أريد أن أطير.» وفي اليوم التالي... تطير.
·الصحفيون هناك ليسوا مجرد صحفيين، بل أبطال نذروا حياتهم، بالمعنى الحرفي للكلمة، لنقل الحقيقة إلى العالم. ومع ذلك، يجدون أنفسهم يخاطبون عالمًا جبانًا متواطئًا، يغض الطرف عن الحقائق ويصمّ أذنيه عن صوت المظلومين.
·تحمل الأم طفلتها بين ذراعيها وتهمس بابتسامة مرتجفة: «لقد زاد وزنك يا صغيرتي.» وبينما تحاول أن تخفي ألمها، تسقط دمعة خائنة من عينيها، فهي تعلم أن طفلتها لم تأكل شيئًا منذ يومين.
·هناك أحاديث أسقطها شيوخ غزة: «إياكم والجلوس في الطرقات.» فكيف لهم أن يذكروها وأهل غزة جميعهم باتوا في الطرقات، بعدما دمر الاحتلال 80% من منازلهم، تاركًا إياهم بلا مأوى سوى ما تبقى من أطلال وطنهم؟
·يذهب الأب إلى المخبز ويقف في طابورٍ لا ينتهي، فقد مرت أيامٌ منذ أن تذوقوا الطعام. وسط الانتظار، يسمع صوت دويٍ هائل، فيتساءل بين الحياة والموت: هل هذا صوت قرقرة معدتي أم انفجار قنبلة؟ يلتفت حوله ليجد الأشلاء متناثرة، وحينها تغمض عيناه.
·ظلت الطفلة هند رجب لساعاتٍ تتوسل عبر الهواء مباشرة: «أنا خائفة... أرجوكم، أخرجوني من هنا!» لكن العالم صمّ أذنيه، فقتلها الاحتلال مع الفريق الطبي الذي حاول إنقاذها. ثلاثمئة طلقة أطلقها الصهاينة نحوها، كأنهم أرادوا محو كل أثرٍ لبراءتها.
لكن خسارتهم الحقيقية تكمن في أنهم قتلوا بالفعل أجزاءً من الطفلة التي كانت تعيش في أعماق أرواحهم، تلك التي كانت تذكرهم بإنسانيتهم التي دفنوها منذ زمن.
    نيسان ـ نشر في 2025/01/17 الساعة 00:00