الخطأ التراجيدي: عنصر درامي وحقيقة بشرية

نيسان ـ نشر في 2025/01/28 الساعة 00:00
كان الخطأ التراجيدي عنصراً أساسياً مهماً في الدراما الإغريقية منذ نشأتها، ومع مرور الزمن استمر واتخذ أشكالاً أخرى في التأليف المسرحي عموماً، وكذلك في بعض ألوان التأليف الروائي. يتشابك الخطأ التراجيدي كعنصر من عناصر الدراما مع العديد من العناصر الأخرى والمفاهيم الخاصة بهذا الفن، فهو يرتبط بفاعله أولاً بطبيعة الحال، الشخص الذي يرتكب هذا الخطأ أو يقع فيه ويسمى البطل التراجيدي، أو البطل عموماً، ويرتبط الخطاً التراجيدي أيضاً بالتطهير، ذلك المفهوم أو الهدف الضروري والحيوي للغاية في الدراما الإغريقية، والتطهير فعل تمارسه الدراما على المتلقي، وأثر تتركه في نفسه من خلال تركيزها على شعورين معينين لديه، وهما شعور الخوف وشعور الشفقة، الخوف من التعرض لمصير مشابه للمصير الذي تعرض له البطل، والوقوع في ما وقع فيه من أخطاء وآثام، والشفقة على هذا البطل وهو يدفع ثمن أفعاله ويسدد دين اختياراته، سواء كان هذا الفعل أو الاختيار حراً مطلقاً، أو كان دفعاً من القدر بغير إرادة منه.
وهذا بدوره يربط الخطأ التراجيدي بمسألة القدر برابطة قوية، يكون لها تأثير بالغ على فعل التطهير، ومدى التعاطف الذي يشعر به المتفرج تجاه البطل، فكلما كان الأمر قدرياً بصورة بحتة زاد الخوف في نفس المتلقي، إذ يحس بوقوعه تحت تلك السطوة الرهيبة ذاتها، وانعدام أي حيلة لديه تمكنه من الهروب أو المواجهة، وكذلك تزداد شفقته على ذلك البطل البشري مثله وما ذهب إليه من مصير مؤلم.
أوديب والقدر

في الدراما الإغريقية كان القدر أحياناً يدفع البطل دفعاً نحو الخطأ التراجيدي، حتى إن حاول البطل أن يفر ويهرب من هذا الخطأ، فإذا به يلف خيوط القدر حول نفسه بشكل أكثر إحكاماً وتعقيداً من دون أن يدري، وبينما يظن أنه هرب يكون قد وصل تماماً إلى حيث يريده القدر. وبالطبع لا نجد مثالاً أدل على ذلك من مأساة أوديب، تلك الحكاية التي ألهمت عدداً من مؤلفي الدراما في عصر الإغريق، ومن أتى بعدهم في عصور وأزمنة لاحقة، لكن أبرزهم بلا شك هو سوفوكليس ونصه الخالد الذي يروي لنا حكاية أوديب أو أوديبوس، ومعنى اسمه كما يقال، صاحب القدمين المتورمتين. تعد مأساة أوديب نموذجاً رائعاً لمفاهيم القدر والتطهير والبطل التراجيدي والخطأ التراجيدي، فالمأساة تصور الفرق الشاسع بين قوة القدر وضعف الإنسان، وتؤكد الحقيقة الأبدية لانهزام الإنسان أمام القدر، وهذا يثير في النفس أعلى درجات الخوف والشفقة، ويجعل من أوديب بطلاً تراجيدياً مكتمل السمات، لكن ما هو الخطأ التراجيدي الذي قام به أوديب؟
ولد أوديب طفلاً بريئاً للملك لايوس والملكة جوكاستا، وعندما أتت كلمات القدر على لسان النبوءة، بأن هذا الطفل سوف يقتل أباه ويتزوج أمه عندما يكبر، ويا لها من نبوءة مشؤومة أثارت الذعر في نفس الأب والأم، وجعلتهما يؤثران القضاء على هذا الطفل، رغم أنهما انتظراه طويلاً، ويقومان بالتخلص منه عن طريق إرساله مع خادم ليقتله. يظن الأب أنه نجا من قدر القتل على يد ابنه، وتظن الأم أنها نجت من أن يتزوجها ابنها، لكن الخادم أشفق على أوديب فلم يقتله وعلقه من قدميه في شجرة، وهو ما أدى إلى التورم في قدميه، ثم تركه ليواجه مصيره، فإن كتبت له الحياة فليعش، وليمت إن كتب له الموت. وكانت الحياة لأوديب، وشاء القدر أن ينشأ ويكبر في كنف الملك بوليب والملكة ميروب، وأن يصير ابناً لملك كورنثة، وهو في الأصل ابن ملك طيبة.
بعد أن يكبر أوديب تأتيه النبوءة المشؤومة ذاتها بأنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، فيفزع ويهرب بعيداً، وفي خضم الأحداث يقتل أباه الحقيقي الملك لايوس، ويتزوج أمه الحقيقية الملكة جوكاستا، ويكون أوديب في قلب أقداره بينما يظن أنه قد نجا منها. بعد سنوات طويلة وأحداث كثيرة يكتشف أوديب هول الفاجعة، فيفقأ عينيه لأنه لا يريد أن يرى ما فعله به القدر، أو لأنه يعاقب نفسه على عدم رؤيته أو عمى بصيرته، التي لم تكتشف القدر ولم تتبين حقيقة ما يدور من حوادث.
كان خطأ أوديب التراجيدي أنه تحدى القدر وظن أنه يستطيع أن يفر منه أو أن يغلبه، بالإضافة إلى الثقة المتوهمة في معرفته وقدرته على التصرف، لكن هل يمكن أن نلوم أوديب على فعله؟ وأن نقول إنه أخطأ في محاولة الهروب من ارتكاب جريمة نكراء والوقوع في إثم محرم؟ فعندما قتل أوديب أباه وتزوج أمه لم يكن ذلك بإرادته الواعية بالحقائق، حيث كان يعيش في وهم وجهل، بينما تسيره الأقدار كيفما تشاء، لذلك لا يكره المتلقي أوديب ولا يعتبره مجرماً، وهذا ما يفصل الخطأ التراجيدي عن الجريمة داخل الدراما في كثير من الأحيان.
إذا انتقلنا من الدراما الإغريقية إلى درامات شكسبير، نجد أن الخطأ التراجيدي أو سقطة البطل لم تعد أمراً قدرياً بحتاً، وإن ظل للقدر دوره بطبيعة الحال، لكن الأمر بات مقترناً بصفات الشخصية الدرامية، وما يغلب عليها من عيوب ونقائص وأطماع وشهوات وافتقار للحكمة. ولم يعد الصراع بين الإنسان والقدر فحسب، وإنما بين الإنسان ونفسه أيضاً، فإن كان ماكبث قد تعرض لنبوءة أيضاً أو لنبوءات، ووسوست له زوجته بالقتل، لكن طموحه وطمعه هما اللذان قاداه نحو جريمته التي يدفع ثمنها غالياً. في مثل هذه الحالة لا يقتصر التطهير على الخوف والشفقة، بل ينبه المتلقي إلى ضرورة مقاومة ذلك الوحش الكامن في داخله، الذي قد يدفعه يوماً نحو خطأ فادح. يستعرض شكسبير في مجموعة من مآسيه ومسرحياته الكثير من نقاط الضعف البشرية، كالملك لير الذي يفتقد تماماً إلى الحكمة والبصيرة وهو شيخ مسن، وهاملت الذي أضاعه التردد وعدم الحسم، وعطيل الذي كان ضعيفاً مهزوماً أمام مشاعر الغيرة والشكوك، بالإضافة إلى العديد من شخصيات شكسبير الأخرى.
يمكننا تتبع الخطأ التراجيدي بصوره المختلفة في العديد من الأعمال المسرحية والروائية في العصور القديمة والحديثة، كما يمكننا التوقف عند أخطاء تراجيدية في دنيا الواقع، دفع إليها البشر دفعاً بواسطة الأقدار، وخطايا كبرى جسدت شرور الإنسانية عبر التاريخ، وجرائم فاقت في وحشيتها كل تصور، فإذا كانت الدراما هي الحياة في شكل آخر، فالحياة دراما لا تنتهي.
كاتبة مصرية
    نيسان ـ نشر في 2025/01/28 الساعة 00:00