الطين جوارب وأحذية
نيسان ـ نشر في 2025/02/06 الساعة 00:00
شهباء شهاب
كاتبة من العراق
كنا في الماضي، قبل أن نصير مثلهم، نعجب كيف يجوع الخلق، وكيف يعيشون عراة مشردين في صيف لاهب، أو شتاء ماطر في أرجاء لم نكن نظن يوما أن عدوى جوعها وفقرها وتشردها وسوادها ستنتقل لنا، فتصفع إنسانيتنا، وتُقشعِرُ جلودنا، وتدمي قلوبنا، وتجعلنا نتلفت حولنا لنتأكد أننا ما زلنا تحت سقف آمن، وبين جدران تقينا زوابع الطبيعة وتقلباتها العنيفة المفاجئة.
أتجول في دروب كتاب الوجوه، فيسبوك، وأتعثر بصور وأشرطة مصورة لأهل غزة يمشون بخطى ثقيلة تئن أقدامهم العارية إلا من الطين وماء المطر الذي يبلل أطراف ثيابهم المتهدلة، فوق كواهل أحناها الضنك والتعب. أسائل النفس لم حصل كل هذا ومن أجل ماذا، وماذا حقق من أراد أن يوصل بشرا مثله إلى هذه المرتبة من الشقاء والعناء والذل، فاذا بي وأنا أستفهم النفس أدميها بأسئلة فلسفية لا جدوى منها ولا طائل سوى تعذيب أكبر لها، أسئلة تستعصي على قلب أصبحت آدميته أكبر من حسابات من يشتغلون بالسياسة، ويظنون أنهم ساسة البلاد والعباد، وهم ليسوا كذلك. هم ليسوا كذلك، لأنهم لو كانوا كذلك لسخرّوا السياسة من أجل ألاّ تمتهن إنسانية الإنسان إلى هذه الدرجة التي لم تعد العين فيها تطيق النظر، ولم يعد القلب فيها يرتضي صبرا، ولم يعد العقل فيها يقبل تسوية. هذه الصور والأشرطة المصورة الموجعة لعائلات غزية بأكملها تسير حافية الأقدام في طرقات موحلة تحت مطر لا يرحم هو الآخر، وبرد ينهش الجلود، ويفتك بالأجساد المنهكة، ما كنت أظن أني سأشاهدها يوما لأبناء أي بلد عربي، ولا حتى في أشد أفلام الرعب والمغامرة قسوة وهلعا وخوفا. ولكنني أتابعها اليوم في فيلم آخر من أفلام الجريمة بحق شعب توالى عليه المجرمون تباعا، ولم يقصر كل واحد منهم في قمعه وتشريده وتشويهه من الداخل، تشويها وصل إلى درجة أن يشمت الأخ في ركن قصي عن الجريمة بذل أخيه وهوانه وعذابه وموته.
ستجد لدى هذا الأخ الشامت دفترا مليئا بكل ما تتخيله من تبريرات وحيثيات لهذه الشماتة، وهذه اللامبالاة، أو التشفي وهو يطالع هذه الصور والأشرطة المصورة التي تفطر القلب، وتشظي آدمية الإنسان، وتنتهك قيم الرحمة والعطف، وتمتهن الحياة الكريمة لأخوة له في وطن عربي مزعوم أصبح الكثيرون يشككون في وجوده المعنوي أصلا، رغم وجوده الجغرافي.
أواصل التجول في كتاب الوجوه فيطالعني شريط مصور لأطفال افارقة في عمر الورود النادرة، بسُمرَةٍ مزاجها قهوة وحليب، يرتدون الطين جوارب، وأحذية وملابس أيضا ، يعملون ووابل المطر يرشقهم بلا رحمة، للبحث عن معدن الكوبالت في مناجم قد تردمهم وهم أحياء، فتئد طفولتهم التي لم يتذوقوا طعمها لنسعد نحن بسياراتنا الفارهة المُدفأة، وهواتفنا الذكية الأنيقة، التي لن تنطق إلاّ بقطعة كوبالت استخرجها طفل صغير نزف طفولته، وتضعضع جسده الغض ليكسب ما يبقيه هو على قيد الحياة، وليزداد تجار الكوبالت ثراءً وغِنىً، ونزداد نحن أصحاب السيارات والهواتف الذكية، أناقة وتباهيا وتمظهراً.
أي عالم هذا الذي لا يرأف بهذه الأقدام الصغيرة الباردة التي ترتدي الطين جوارب وأحذية، بينما نمر نحن في كتاب الوجوه نطالعها ونهز الاكتاف لا مبالين، لا نحس ببرودة الطين تلسع الأصابع الصغيرة الغضة. وجع الانسان يوجعني، ووجعه يستفز دمي، فأحن إلى ماضٍ أدرك أنه لم يكن الأفضل، ولكنه كان الأقل قبحا، لا غير. الحنين إلى الماضي هنا ليس محبة به، ولكن لأن الحاضر يبلغ من البشاعة درجة تجعلنا نهرب منه، ونلتفت إلى الخلف بحثا عن أي بقعة ضوء بيضاء ناعمة صغيرة، حتى إن كانت مؤقتة أو طارئة أو محض سراب يومض ويبرق. يا ويلنا، أوصلنا إلى هذا الحد من التيه والضلال، فأخذ واحدنا يَحِّنُ لماضٍ رديء لأن الحاضر معتم كالح السواد هكذا.
كاتبة من العراق
كنا في الماضي، قبل أن نصير مثلهم، نعجب كيف يجوع الخلق، وكيف يعيشون عراة مشردين في صيف لاهب، أو شتاء ماطر في أرجاء لم نكن نظن يوما أن عدوى جوعها وفقرها وتشردها وسوادها ستنتقل لنا، فتصفع إنسانيتنا، وتُقشعِرُ جلودنا، وتدمي قلوبنا، وتجعلنا نتلفت حولنا لنتأكد أننا ما زلنا تحت سقف آمن، وبين جدران تقينا زوابع الطبيعة وتقلباتها العنيفة المفاجئة.
أتجول في دروب كتاب الوجوه، فيسبوك، وأتعثر بصور وأشرطة مصورة لأهل غزة يمشون بخطى ثقيلة تئن أقدامهم العارية إلا من الطين وماء المطر الذي يبلل أطراف ثيابهم المتهدلة، فوق كواهل أحناها الضنك والتعب. أسائل النفس لم حصل كل هذا ومن أجل ماذا، وماذا حقق من أراد أن يوصل بشرا مثله إلى هذه المرتبة من الشقاء والعناء والذل، فاذا بي وأنا أستفهم النفس أدميها بأسئلة فلسفية لا جدوى منها ولا طائل سوى تعذيب أكبر لها، أسئلة تستعصي على قلب أصبحت آدميته أكبر من حسابات من يشتغلون بالسياسة، ويظنون أنهم ساسة البلاد والعباد، وهم ليسوا كذلك. هم ليسوا كذلك، لأنهم لو كانوا كذلك لسخرّوا السياسة من أجل ألاّ تمتهن إنسانية الإنسان إلى هذه الدرجة التي لم تعد العين فيها تطيق النظر، ولم يعد القلب فيها يرتضي صبرا، ولم يعد العقل فيها يقبل تسوية. هذه الصور والأشرطة المصورة الموجعة لعائلات غزية بأكملها تسير حافية الأقدام في طرقات موحلة تحت مطر لا يرحم هو الآخر، وبرد ينهش الجلود، ويفتك بالأجساد المنهكة، ما كنت أظن أني سأشاهدها يوما لأبناء أي بلد عربي، ولا حتى في أشد أفلام الرعب والمغامرة قسوة وهلعا وخوفا. ولكنني أتابعها اليوم في فيلم آخر من أفلام الجريمة بحق شعب توالى عليه المجرمون تباعا، ولم يقصر كل واحد منهم في قمعه وتشريده وتشويهه من الداخل، تشويها وصل إلى درجة أن يشمت الأخ في ركن قصي عن الجريمة بذل أخيه وهوانه وعذابه وموته.
ستجد لدى هذا الأخ الشامت دفترا مليئا بكل ما تتخيله من تبريرات وحيثيات لهذه الشماتة، وهذه اللامبالاة، أو التشفي وهو يطالع هذه الصور والأشرطة المصورة التي تفطر القلب، وتشظي آدمية الإنسان، وتنتهك قيم الرحمة والعطف، وتمتهن الحياة الكريمة لأخوة له في وطن عربي مزعوم أصبح الكثيرون يشككون في وجوده المعنوي أصلا، رغم وجوده الجغرافي.
أواصل التجول في كتاب الوجوه فيطالعني شريط مصور لأطفال افارقة في عمر الورود النادرة، بسُمرَةٍ مزاجها قهوة وحليب، يرتدون الطين جوارب، وأحذية وملابس أيضا ، يعملون ووابل المطر يرشقهم بلا رحمة، للبحث عن معدن الكوبالت في مناجم قد تردمهم وهم أحياء، فتئد طفولتهم التي لم يتذوقوا طعمها لنسعد نحن بسياراتنا الفارهة المُدفأة، وهواتفنا الذكية الأنيقة، التي لن تنطق إلاّ بقطعة كوبالت استخرجها طفل صغير نزف طفولته، وتضعضع جسده الغض ليكسب ما يبقيه هو على قيد الحياة، وليزداد تجار الكوبالت ثراءً وغِنىً، ونزداد نحن أصحاب السيارات والهواتف الذكية، أناقة وتباهيا وتمظهراً.
أي عالم هذا الذي لا يرأف بهذه الأقدام الصغيرة الباردة التي ترتدي الطين جوارب وأحذية، بينما نمر نحن في كتاب الوجوه نطالعها ونهز الاكتاف لا مبالين، لا نحس ببرودة الطين تلسع الأصابع الصغيرة الغضة. وجع الانسان يوجعني، ووجعه يستفز دمي، فأحن إلى ماضٍ أدرك أنه لم يكن الأفضل، ولكنه كان الأقل قبحا، لا غير. الحنين إلى الماضي هنا ليس محبة به، ولكن لأن الحاضر يبلغ من البشاعة درجة تجعلنا نهرب منه، ونلتفت إلى الخلف بحثا عن أي بقعة ضوء بيضاء ناعمة صغيرة، حتى إن كانت مؤقتة أو طارئة أو محض سراب يومض ويبرق. يا ويلنا، أوصلنا إلى هذا الحد من التيه والضلال، فأخذ واحدنا يَحِّنُ لماضٍ رديء لأن الحاضر معتم كالح السواد هكذا.
نيسان ـ نشر في 2025/02/06 الساعة 00:00