اليمين المتطرف.. انه القشة تحط على ظهر اوروبا العجوز..
نيسان ـ نشر في 2025/03/06 الساعة 00:00
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، وجدت أوروبا نفسها في فوضى عارمة، وكان الحطام المتناثر عبر مدنها العريقة شاهداً على صراع أهوج لم يخلّف سوى الخراب والموت، تاركاً الناس محاطين بالدمار والكراهية والانقسامات الأيديولوجية الحادة. ومع سقوط الرايخ الثالث وانهيار المشروع النازي، تراجعت الأحزاب اليمينية المتطرفة التي غذّت أتون الحرب، وفقدت حاضنتها الاجتماعية تحت وطأة الإدراك الجماعي لفداحة الكارثة التي ساهمت في إشعالها.
وفي محاولة يائسة لترميم ما تبقى من الحلم الأوروبي ومعالجة الجراح التي خلّفتها سنوات الدمار، خطت ست دول – فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ – أولى خطواتها نحو بناء كيان جديد يقي القارة من الانزلاق مجدداً إلى هاوية النزاعات. وهكذا، وُلِد في عام 1951 "المجتمع الأوروبي للفحم والصلب" (ECSC)، ليس كمجرد اتفاق اقتصادي، بل كإعلان عن إرادة أوروبية جماعية لمنع تكرار ويلات الحرب وإرساء دعائم سلام دائم ومستدام.
لم تتوقف هذه المساعي عند حدود التعاون الاقتصادي الأولي، بل تعمّقت الرؤية التكاملية أكثر مع تأسيس "المجتمع الاقتصادي الأوروبي" (EEC) و"المجتمع الأوروبي للطاقة الذرية" (Euratom) عام 1957، وهي الخطوات التي مهّدت، بحلول عام 1967، لظهور كيان أكثر تماسكاً تحت اسم "المجتمعات الأوروبية". ومن بين أنقاض الحروب والآلام، وُلدت أوروبا جديدة تطمح إلى استبدال الصراعات التاريخية بعصر من الاستقرار والازدهار، وترسم طريقها نحو وحدة لم تعرفها القارة يوماً.
لكن التاريخ، بطبيعته المتقلّبة، لا يسير دائماً في خط مستقيم. فبعد عقود من التوسع والتطور، ومع تحوّل المجتمعات الأوروبية إلى "الاتحاد الأوروبي" عام 1993، بدا للحظة أن أوروبا قد تعلّمت دروس الماضي، وأن القارة العجوز قد طوت صفحة القومية المدمّرة. إلا أن بداية القرن الحادي والعشرين حملت رياحاً معاكسة؛ إذ عادت الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة لتتسلّق مشهد السياسة الأوروبية، مستغلّة أزمات اقتصادية واجتماعية لتعيد إنتاج شعارات الماضي، فانتشرت بسرعة كالنار في الهشيم، متغلغلة في البرلمانات والحكومات الوطنية، وحتى في قلب البرلمان الأوروبي نفسه.
والمفارقة الموجعة أن هذا التمدّد جاء رغم بقاء شهود الحرب العالمية الثانية على قيد الحياة، كأن أوروبا، بعد عقود من السلام والرفاه، بدأت تنسى الكوابيس التي دفعتها ذات يوم إلى البحث عن الوحدة والاندماج. وهكذا، انبعثت القومية في صورها القديمة والجديدة، محمولة بأجندات متطرفة وأفكار معادية للمهاجرين، لتجد القارة نفسها مجدداً أمام تساؤل وجودي: فكيف وأين يغزو اليمين المتطرف أوروبا؟
من الهامش إلى السلطة: اليمين المتطرف لاعب رئيسي في السياسة الأوروبية
لم يكن صعود الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في أوروبا وليد لحظة عابرة أو مجرد موجة سياسية مؤقتة، بل هو انعكاس عميق لتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية ممتدة عبر العقود. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأت هذه الأحزاب تجد لنفسها موطئ قدم في الساحة السياسية الأوروبية، وسرعان ما تحوّلت من ظاهرة هامشية إلى لاعب رئيسي في معادلة الحكم. ومع تسارع خطاها في تسعينيات القرن الماضي، تضاعفت قوتها الانتخابية، ورسّخت حضورها في المشهد السياسي للقارة مع الوقت.
مع بزوغ القرن الحادي والعشرين، لم تعد هذه الحركات مجرد معارضة هامشية أو أصوات احتجاجية، بل باتت رقماً صعباً في المعادلة الديمقراطية، إذ حصدت مواقع متقدمة في البرلمانات المحلية والوطنية، بل وحتى في البرلمان الأوروبي. وعلى الرغم من تبدّل خطابها وأساليبها مقارنة بنظيراتها في القرن العشرين، إلا أن جوهرها ظل متماسكًا، يحمل في طياته مزيجًا من النزعات القومية، والعداء للمهاجرين، والتشكيك في الاتحاد الأوروبي. واليوم، تحتل الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة مكانة مؤثرة في دول القارة، بعد أن حققت مكاسب انتخابية متسارعة في كل من النمسا، إيطاليا، هولندا، المجر، بولندا، فرنسا، وألمانيا.
النمسا: الانتصار التاريخي لليمين المتطرف
كانت الانتخابات الفيدرالية النمساوية لعام 2024 لحظة فارقة في صعود اليمين المتطرف. فقد تمكن حزب الحرية النمساوي (FPÖ) من تحقيق انتصار تاريخي، متربعًا على قمة المشهد السياسي بنسبة 29% من الأصوات، وهي أفضل نتيجة انتخابية له على الإطلاق.
ورأى المحلل السياسي توماس هوفر هذا الفوز "إنه بلا شك زلزال، وموجة صدمة للطبقة السياسية بأكملها"، لأن أقصى اليمين قد شارك سابقًا في الحكم، لكنها المرة الأولى التي يتصدر فيها نتائج الانتخابات.
وجاء هذا التقدم على خلفية استياء الناخبين من تفاقم التضخم، وقضايا الهجرة، وتراجع الثقة في سياسات الحكومة. فبدفع من هربرت كيكل رئيس الحزب، استغل موجة الخوف الاجتماعي والاقتصادي التي تعم القارة الأوروبية.
ويدافع كيكل عن مشروع نزع الجنسية عن النمساويين من أصول أجنبية، كما يريد أن يطلق عليه لقب "فولكسكانسلر" (مستشار الشعب) على غرار الزعيم النازي أدولف هتلر.
ورغم أن ثلاثة أحزاب استطاعت أن تتفق على تشكيل ائتلاف حكومي لاستبعاد حزب الحرية، هلّلت الحركات اليمينية المتشددة في هولندا، فرنسا، وألمانيا، معتبرةً إياه انتصارًا على التيارات الليبرالية التي طالما سيطرت على المشهد الأوروبي.
إيطاليا: من رماد الفاشية إلى السلطة
في إيطاليا، استعاد التاريخ الفاشي للبلاد بعض أنفاسه مع صعود حزب "إخوة إيطاليا" (FdI) بقيادة جورجيا ميلوني، التي قادت التحالف اليميني إلى السلطة بعد فوز الحزب بنسبة 25.99% في انتخابات سبتمبر 2022، في حين حصل ائتلافها على نحو 44% من الأصوات، مما ضمن لها أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
وقد تأسس FdI عام 2012، لكنه لم يحتج إلا إلى عقد واحد ليصبح الحزب الأول في البلاد. غير أن جذوره تمتد أبعد من ذلك، إذ تعود إلى "الحركة الاشتراكية الإيطالية" (MSI)، التي أسسها جورجيو ألميرانتي، أحد كبار المسؤولين في وزارة الثقافة خلال عهد بينيتو موسوليني.
غير أن جورجيا ميلوني، رغم هذا الإرث المثير للجدل، ترفض التصنيفات التي تصمها بالفاشية، وتُصرّ على أن حزبها ليس سوى تعبير عن "وطنية متطرفة" ونهج "محافظ" في الشؤون الداخلية والخارجية، لا سيما فيما يتعلق بسياسات الهجرة، التي تتخذ منها موقفًا صارمًا.
ومع ذلك، لا تخفي ميلوني اهتمامها بتلك المرحلة من تاريخ بلادها، تمامًا كما هو الحال مع رئيس البرلمان إغناسيو لا روسا، الذي لا يزال يحتفظ بتمثال نصفي لموسوليني في منزله، في إشارة إلى جذوره العائلية، حيث كان والده سكرتيرًا في الحزب الفاشي خلال حقبة "الدوتشي".
وعلى الرغم من أن الحزب الحاكم اليوم في روما يقدّم نفسه كقوة يمينية وطنية محافظة، إلا أن ارتباطه الرمزي والإيديولوجي بميراث الحركة الفاشية لم ينقطع تمامًا، ما يجعل منه بحسب العديد من المحللين، الحفيد السياسي للحزب الذي حكم إيطاليا في أربعينيات القرن الماضي.
ولم يكن صعود جورجيا ميلوني وحزبها اليميني المتطرف مجرد موجة سياسية عابرة، بل هو تتويج لمسار طويل من التحولات التي شهدتها إيطاليا خلال العقد الماضي.
إذ جاء وصولها إلى السلطة نتيجة تحالف استراتيجي بين القوى اليمينية، حيث تصدرت "إخوة إيطاليا" (Fratelli d'Italia – FdI) ائتلافًا يضم حزب "الرابطة" (Lega) بزعامة ماتيو سالفيني، وحزب "فورتسا إيطاليا" بقيادة سيلفيو برلسكوني. وقد مكّن هذا التحالف اليميني المتشدد من تحقيق نصر انتخابي كاسح، مُعيدًا تشكيل المشهد السياسي الإيطالي، ودافعًا بالخطاب القومي الشعبوي إلى قلب السلطة.
إلى جانب الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة ميلوني، تبرز قوى شعبوية أخرى، وعلى رأسها "حركة النجوم الخمس" (Movimento 5 Stelle – M5S). هذه الحركة، التي تبدو وكأنها نتاج عصر الإعلام الرقمي بامتياز، تأسست عام 2009 على يد الممثل الكوميدي بيبي غريللو، والمستشار في استراتيجيات الويب جيانروبرتو كاساليغيو. في مشهد سياسي تقليدي ومتجذر كالمشهد الإيطالي، بدا صعود حركة ناشئة بهذا الزخم أمرًا استثنائيًا، حيث نجحت بسرعة قياسية في اكتساب شعبية واسعة، متجاوزة القيود الأيديولوجية التقليدية.
فبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تُعرّف الحركة نفسها بأنها "شابة وشعبوية"، وتطرح نفسها كبديل للأحزاب التقليدية التي فقدت ثقة الناخبين. لم يكن صعودها مجرد ضجة إعلامية، بل تجلى في نتائج ملموسة؛ ففي يونيو/حزيران 2016، حققت نصرًا تاريخيًا بفوزها في انتخابات بلدية روما، ثم بلغت ذروة نجاحها في الانتخابات التشريعية لعام 2018، حينما هيمنت على المشهد السياسي الإيطالي، محدثة زلزالًا في التركيبة السياسية للبلاد.
وما يميز حركة النجوم الخمس هو غموض أيديولوجيتها؛ فهي لا تتبنى موقفًا واضحًا بين اليسار واليمين، بل تمزج بين توجهات شعبوية، يمينية، وبيئية، ما يجعلها كيانًا سياسيًا مرنًا، قادرًا على استقطاب شريحة واسعة من الناخبين الساخطين. إضافة إلى ذلك، ترفض الحركة التدخلات العسكرية الأوروبية والأمريكية في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا والعراق، كما تسعى إلى إعادة النظر في "اتفاقية دبلن" للهجرة، التي تلزم اللاجئين بتقديم طلبات اللجوء في أول دولة يصلون إليها داخل الاتحاد الأوروبي، مطالبة بخفض المساعدات المالية للدول التي ترفض استقبال اللاجئين.
المجر وبولندا: الديمقراطية تحت الحصار
في المجر، أحكم رئيس الوزراء فيكتور أوربان قبضته على الحكم بعد فوزه في الانتخابات للمرة الرابعة على التوالي في أبريل 2022، بنسبة 53.7% من الأصوات. منذ وصوله إلى السلطة عام 2010، وفقًا لمجلة الإيكونوميست البريطانية، استطاع فيكتور أوربان أن يفرغ الديمقراطية في المجر من محتواها، إذ لم يكن أوربان مجرد زعيم سياسي، بل مهندسًا لنظام جديد أعاد رسم المشهد الديمقراطي، حيث أضعف مؤسسات الرقابة، وهمّش المعارضة، وحوّل البلاد إلى ما يشبه "ديمقراطية غير ليبرالية".
منذ أن تبنّى أوربان الخطاب اليميني، باتت رسائله السياسية ترتكز على مفاهيم الوطنية، والقومية، والقيم المسيحية. وعلى الرغم من أنه لا يُعرف عنه ذهابه إلى الكنيسة، أو الالتزام بالممارسات الدينية التقليدية، إلا أنه لا يتردد في تقديم نفسه كـ"القديس ستيفن الحديث"، المدافع عن المسيحية الأوروبية في وجه "الغزاة الجدد". لذلك، يقف أوربان موقفًا صارمًا ضد الهجرة، معتبرًا أن تدفق المهاجرين المسلمين "يهدد الثقافة المسيحية اليهودية" للمجر.
لم يكن موقف المجر من قضايا الهجرة وليد اللحظة، إذ إنها من بين الدول التي لا تلتزم بقرارات محكمة العدل الأوروبية، وترفض الامتثال لسياسات الاتحاد الأوروبي الخاصة باللاجئين. وبموجب سياسات أوربان، مُنع طالبو اللجوء من تقديم طلباتهم داخل البلاد، في انتهاك صارخ لمعايير الهجرة الأوروبية.
رغم عضوية المجر في الاتحاد الأوروبي، لطالما انتهج رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، سياسة ذات طابع مستقل، متحررًا – أو بالأحرى متحديًا – مناخ التوجهات السائدة في بروكسل. بدا وكأن أوربان، الذي تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2024، يخوض صراعًا فكريًا وسياسيًا مع ما يسميه "نخب بروكسل"، متهمًا إياها بدفع القارة إلى مسارات لا تخدم مصالح الدول الأعضاء، ومؤخرًا حمّلها مسؤولية تأجيج نار الحرب في أوكرانيا.
وفي خطوة تعكس طموحه لترسيخ رؤيته الخاصة، تعهد أوربان باستغلال الرئاسة المجرية للاتحاد الأوروبي للدفع باتجاه مشروعه السياسي الذي يسعى إلى إعادة تشكيل القارة على أسس أقرب إلى توجهاته المحافظة والقومية، تحت شعار "لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى"، مردّدًا الشعار الذي أطلقه حليف أوربان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أميركا.
وفي ملف الحرب الروسية الأوكرانية، كان من أوائل المعارضين لفرض العقوبات على موسكو، ورفض مقاطعة الغاز الروسي، ما دفع البعض إلى اتهامه بالدفاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متهمين إياه بوضع مصالح بلاده الاقتصادية فوق الاعتبارات الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي. كما كان الصوت الوحيد في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي عارض انضمام السويد، رغم الضغوط الأوروبية.
بعد أكثر من عقد على حكمه، لا يزال أوربان يحكم قبضته على السلطة في المجر، متبعًا نهجًا لا يخلو من الجدل، حيث يستمر في تحدي سياسات الاتحاد الأوروبي، مع تعزيز رؤيته لـ"ديمقراطية غير ليبرالية" ترتكز على الهوية القومية والمسيحية، معادية للهجرة، ومنفصلة عن التيار الأوروبي السائد.
ولا تقتصر سياسات وتصريحات أوربان المتطرفة على قضية الهجرة، بل امتدت إلى قضايا دولية شائكة، كان آخرها موقفه من حرب غزة، حيث رحب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، متجاهلًا قرار المحكمة الجنائية الدولية الساعي إلى اعتقاله.
وفي بولندا، خاض حزب "القانون والعدالة" (PiS) معركة طويلة ضد التيارات الليبرالية منذ وصوله إلى السلطة عام 2015، رغم أن البلاد كانت حتى ذلك الوقت نموذجًا للاستقرار الديمقراطي والاقتصادي في شرق أوروبا. إلا أن الحزب اليميني الشعبوي قلب الطاولة، وأطلق سياسات معادية للاتحاد الأوروبي، مما جعله في مواجهة مستمرة مع بروكسل.
فرنسا وألمانيا وهولندا: قلاع الديمقراطية تهتز
شهدت الانتخابات الأوروبية لعام 2024 تحولًا سياسيًا غير مسبوق في فرنسا، حيث تمكن حزب التجمع الوطني (Rassemblement National – RN)، ممثل أقصى اليمين بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا، من تحقيق انتصار ساحق، محققًا 31.37% من الأصوات وحاصدًا 30 مقعدًا برلمانيًا. هذا الإنجاز وضع الحزب في الصدارة بفارق شاسع عن أقرب منافسيه، حيث لم يتمكن حزب الرئيس إيمانويل ماكرون سوى من حصد 13 مقعدًا فقط، وهو الرقم نفسه الذي حققه الحزب الاشتراكي، بينما جاء حزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلانشون متأخرًا بـ9 مقاعد فقط.
لم يكن هذا الصعود مجرد انتصار انتخابي لحزب لطالما عانى من التهميش السياسي، بل عكس تحولًا جذريًا في المزاج الانتخابي الفرنسي، حيث بات أقصى اليمين لاعبًا رئيسيًا في السياسة الأوروبية، كاسرًا حاجز العزلة السياسية التي فرضت عليه لعقود.
في 30 يونيو/حزيران، جاءت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية لتعزز التفوق الانتخابي لحزب التجمع الوطني، حيث تصدر المشهد بحصوله على 19.01% من الأصوات، بعد جمعه أكثر من 9.37 مليون صوت. هذا الإنجاز، الذي وصف بالسابقة السياسية، جعل فرنسا تبدو وكأنها على وشك منح مفاتيح قصر ماتينيون—مقر رئاسة الحكومة—لليمين المتطرف، في خطوة كانت تعد من المحظورات السياسية لعقود.
إلا أن المفاجأة الكبرى جاءت في الجولة الثانية، حيث تراجعت آمال التجمع الوطني بشكل درامي، ليحلّ في المركز الثالث بـ 142 مقعدًا فقط، متخلفًا عن الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة، التي تصدرت المشهد بحصولها على 178 مقعدًا، تلاها تحالف الرئيس ماكرون بـ168 مقعدًا. وبهذا، فشل اليمين المتطرف في تحقيق الاختراق السياسي الذي توقعه الكثيرون، رغم الزخم الذي رافق حملته الانتخابية.
أظهرت نتائج الانتخابات أن الفرنسيين، رغم دعمهم المتزايد لأقصى اليمين في الجولة الأولى، أقدموا على مراجعة خياراتهم في الجولة الثانية، مانعين التجمع الوطني من الوصول إلى السلطة التنفيذية. إلا أن هذا لم يكن انتصارًا حاسمًا لليسار أو الوسط، بل أقرب إلى تفويض سياسي مؤقت، يُعبر عن حالة من التردد وعدم الاستقرار في المشهد السياسي الفرنسي، حيث لم يحظَ أي تيار بأغلبية واضحة تمكنه من فرض سياسات مستقرة.
ورغم أن حزب التجمع الوطني لم ينجح في تصدر نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، إلا أن انتخابات 2024، وقبلها انتخابات 2022، كرّست تحولًا جوهريًا في المشهد السياسي الفرنسي، إذ أنهت عقودًا من العزلة السياسية التي عانى منها الحزب منذ تأسيسه في 1972 على يد جان ماري لوبان. فالمواقف التي كانت تمثل سابقًا هوامش سياسية، باتت اليوم تحظى بتأييد شعبي واسع، ما يعكس تغيرًا عميقًا في المشهد الانتخابي الفرنسي.
في موازاة ذلك، شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024 انتصارًا جديدًا لحزب التجمع الوطني، حيث تمكنت قائمة الحزب بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا من مضاعفة عدد مقاعدها مقارنة بعام 2019، لترتفع من 18 إلى 30 مقعدًا، متجاوزة حزب الرئيس ماكرون بفارق شاسع، ومؤسسةً بذلك لأكبر كتلة يمينية متطرفة داخل البرلمان الأوروبي.
رغم الانتكاسة التي تعرض لها التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية، فإن المكاسب التي حققها في الانتخابات الأوروبية تعكس ديناميكية سياسية جديدة في فرنسا، حيث لم يعد اليمين المتطرف مجرد ظاهرة انتخابية عابرة.
في ألمانيا، التي طالما اعتُبرت حصنًا لليبرالية والديمقراطية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت الانتخابات التشريعية لعام 2025 تحولًا سياسيًا تاريخيًا، إذ سجلت نسبة مشاركة غير مسبوقة تجاوزت 83%، وهي النسبة الأعلى منذ سقوط جدار برلين وإعادة توحيد الألمانيتين عام 1990. في خضم هذا الحراك الانتخابي، حقق حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) نجاحًا غير مسبوق، حيث حصد أكثر من 20% من الأصوات، ما جعله يرسّخ موقعه كقوة سياسية لا يمكن تجاهلها.
ورغم أن المستشار المنتخب فريدريش ميرتس أكد بشكل قاطع رفضه التحالف مع الحزب اليميني المتطرف تحت أي ظرف، ما يعني بقاء AfD في صفوف المعارضة، إلا أن هذه الانتخابات مثّلت علامة فارقة في مسار الحزب، الذي تمكّن من مضاعفة عدد مقاعده في البوندستاغ مقارنة بانتخابات 2021، مما عزز حضوره على الساحة السياسية الألمانية بشكل غير مسبوق.
وعلى الرغم من أن حزب البديل من أجل ألمانيا يُعتبر منظمة متطرفة من قبل أجهزة الاستخبارات المحلية في ثلاث ولايات ألمانية، ويخضع للتحقيق من قبل السلطات الوطنية بسبب معاداة الإسلام ومواقفه المتطرفة المناهضة للمهاجرين، فقد استطاع تحقيق "اختراقات في الولايات الشرقية متسلحاً بخطاب قومي عنصري معاد للهجرة والإسلام".
فوفقًا لمجموعة The Conversation البحثية الأوروبية، فإن حزب البديل من أجل ألمانيا يشهد اليوم طفرة غير مسبوقة، بعد مسيرة من الصعود التدريجي. ففي أول انتخابات فيدرالية خاضها عام 2013، فشل الحزب في الفوز بأي مقعد برلماني، لكنه سرعان ما بدأ في حصد المكاسب الانتخابية. بين عامي 2017 و2021، تمكّن AfD من تأمين نحو 13% من مقاعد البوندستاغ، ليصبح ثالث أكبر حزب في البرلمان الألماني. إلا أن شعبيته تراجعت بشكل طفيف في انتخابات 2021، ليحتفظ بـ 11% فقط من المقاعد. أما اليوم، فقد قلب الحزب المعادلة تمامًا، حيث أصبح ثاني أكبر قوة سياسية في ألمانيا، ما يشير إلى تحولات عميقة في المزاج الانتخابي للبلاد.
أما في هولندا، فقد شهدت الانتخابات البرلمانية الهولندية الأخيرة، التي جرت في 22 نوفمبر 2023، زلزالًا سياسيًا غير مسبوق، حيث تصدر حزب الحرية (PVV) بقيادة اليميني المتطرف خيرت فيلدرز المشهد الانتخابي لأول مرة في تاريخه، بحصوله على 37 مقعدًا من أصل 150 في مجلس النواب. لم يكن هذا الفوز مجرد تحول انتخابي، بل شكل أكبر مفاجأة سياسية في هولندا منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم هذا الانتصار التاريخي، لم ينجح فيلدرز في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، حيث تولى ديك شوف رئاسة الحكومة منذ يوليو 2024، على رأس ائتلاف يميني مهمته الأساسية تنفيذ سياسات هجرة صارمة تعد الأكثر تشددًا في تاريخ البلاد. كان على فيلدرز التراجع عن طموحاته في قيادة الحكومة، بعدما اصطدم بمعارضة من شركاء الائتلاف الذين اعتبروا خطابه المعادي للإسلام والمشكك في الاتحاد الأوروبي متطرفًا للغاية ليكون على رأس السلطة التنفيذية في البلاد.
وقد أمضى فيلدرز ربع قرن في البرلمان الهولندي، دائمًا في صفوف المعارضة. ولم يقترب من الحكم فعليًا إلا في عام 2010، عندما دعم الائتلاف الأول لرئيس الوزراء الأسبق مارك روته، لكنه لم ينضم رسميًا للحكومة، وأسقطها بعد 18 شهرًا فقط بسبب خلاف حول سياسات التقشف.
يُعرف فيلدرز بكونه أحد أبرز وجوه الشعبوية الأوروبية، بخطابه العنصري ضد اللاجئين، ومواقفه اليمينية المتشددة التي كلفته إدانة قضائية بإهانة الجالية المغربية في هولندا. وقد تضمن برنامجه الانتخابي دعوات صريحة لإجراء استفتاء حول خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى سياسات صدامية مثل "وقف اللجوء" و"حظر المدارس الإسلامية والمصاحف والمساجد".
ويعتبر فيلدرز مؤيداً قوياً للاحتلال الإسرائيلي ومؤيد لنقل سفارة هولندا إلى القدس، مقابل إغلاق البعثة الدبلوماسية الهولندية في رام الله، الخاضعة للسلطة الفلسطينية.
ورغم نجاح بعض الأحزاب في إقناعه لإبعاده عن تصدر المشهد في رئاسة الحكومة، يبقى فوز فيلدرز مؤشرًا على تحول عميق داخل المجتمع الهولندي، يطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل التوازن السياسي في البلاد، ومدى قدرة النخبة الحاكمة على كبح المد اليميني المتطرف دون خسارة ثقة الناخبين.
كيف عاد اليمين المتطرف ليجتاح أوروبا؟ وما الذي يغذي فكره وسحره الشعبوي؟
تتناول مجلة علم الاجتماع الدولي في مقالة نشرها الأكاديمي مراد أكتاش تنامي صعود اليمين المتطرف الشعبوي في أوروبا، مشيرة إلى أن أسبابه معقدة ومتداخلة. أحد العوامل الرئيسية هو الإحباط الشعبي من أداء الأحزاب التقليدية في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالأزمة المالية عام 2008 وما تبعها من سياسات تقشفية عمقت التفاوتات وأضعفت الثقة في النخب السياسية، ما فتح المجال أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة لاستغلال هذا السخط وتقديم نفسها كبديل.
وتشير الدراسة إلى أن هذه الأحزاب نجحت في توظيف الأزمات لصالحها، لا سيما مع تفاقم موجات الهجرة منذ 2015، حيث روَّجت لروايات تربط اللاجئين بارتفاع البطالة والتهديدات الأمنية، ما عزز من شعبيتها. وترى المجلة أن هذه الأحزاب تتقن تبسيط القضايا المعقدة، وتقسم المجتمع إلى "نحن" مقابل "هم"، ما يسهم في إضعاف الديمقراطية وتعزيز النزعات الاستبدادية.
يحلل الأكاديمي كينيث فوغان في مقال له، العلاقة المتشابكة بين الدين والعلمانية في أوروبا في دعم اليمين المتطرف، مشيرًا إلى أن هذه الأحزاب اليمينية توظف الهوية المسيحية لأوروبا كذريعة لمعاداة الإسلام واللاجئين المسلمين كما في إيطاليا والمجر، وأيضًا العلمانية في تصنيف المهاجرين المسلمين كعقبات أمام التقدم كما في حالة هولندا.
أما الأكاديمي الإيطالي أندريا ماريا ماكاريني، فيحاول أن يفسر صعود اليمين المتطرف في أوروبا من مفهوم "البربرية الحديثة"، في مقالة له، يشرح كيف أن عملية التحديث ليست مجرد قوة تقدمية بحتة، بل إنها تحمل في طياتها تناقضات وأزمات يمكن أن تؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من البربرية، وهو ما يفسر، جزئيًا، صعود اليمين المتطرف في أوروبا.
فيشير ماكاريني إلى أن التحديث ليس عملية خطية أو موحدة، بل يتطور بطرق مختلفة عبر الثقافات، مما يخلق توترات بين التقليد والحداثة، وهي التوترات التي يعتاش عليها الخطاب اليميني المتطرف. ففي المجتمعات التي شهدت تحولات ديموغرافية واقتصادية سريعة، حيث تصاعدت الهجرة وزادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، نجح اليمين المتطرف في تصوير التحديث على أنه تهديد مباشر للنسيج الوطني، مؤججًا المخاوف من فقدان الهوية والسيادة لصالح قوى عالمية أو نخب سياسية "منفصلة عن الشعب".
وبهذا المعنى، فإن صعود الحركات اليمينية المتطرفة لا يمكن فهمه فقط من خلال العوامل الاقتصادية أو الشعبوية، بل هو أيضًا نتاج أزمة تحديث غير متوازنة، حيث يؤدي الإحساس بالفقدان الاجتماعي والثقافي إلى ردود فعل سياسية متطرفة، ترفض المؤسسات الديمقراطية وتسعى إلى إعادة فرض رؤى سلطوية تتناسب مع الحنين إلى الماضي، وهو ما يمثل شكلاً حديثًا من "البربرية السياسية" داخل المجتمعات المتقدمة.
كما لو أن الزمن يدور في حلقة مفرغة، تعود أوروبا اليوم لمواجهة شبح القومية المتطرفة الذي ظنّت أنها دفنته تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية. بعد عقود من التكامل والازدهار، تهتز أسس المشروع الأوروبي تحت وطأة صعود اليمين المتطرف، الذي يتغذى على مخاوف الهوية والأزمات الاقتصادية وتراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية.
فهل تتجه القارة العجوز إلى إعادة إنتاج أخطاء الماضي؟ أم أنها ستتمكن من استيعاب هذه الموجة وإعادة تشكيل ديمقراطيتها بما يضمن استقرارها؟ في معركة بين الذاكرة والنسيان، وبين الاندماج والانقسام، يبقى مصير أوروبا معلقًا بين دروس التاريخ وإغراءات الشعبوية، وبين من يسعى للحفاظ على وحدتها، ومن يحلم بإعادة رسم حدودها وفق خرائط الماضي.
وفي محاولة يائسة لترميم ما تبقى من الحلم الأوروبي ومعالجة الجراح التي خلّفتها سنوات الدمار، خطت ست دول – فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ولوكسمبورغ – أولى خطواتها نحو بناء كيان جديد يقي القارة من الانزلاق مجدداً إلى هاوية النزاعات. وهكذا، وُلِد في عام 1951 "المجتمع الأوروبي للفحم والصلب" (ECSC)، ليس كمجرد اتفاق اقتصادي، بل كإعلان عن إرادة أوروبية جماعية لمنع تكرار ويلات الحرب وإرساء دعائم سلام دائم ومستدام.
لم تتوقف هذه المساعي عند حدود التعاون الاقتصادي الأولي، بل تعمّقت الرؤية التكاملية أكثر مع تأسيس "المجتمع الاقتصادي الأوروبي" (EEC) و"المجتمع الأوروبي للطاقة الذرية" (Euratom) عام 1957، وهي الخطوات التي مهّدت، بحلول عام 1967، لظهور كيان أكثر تماسكاً تحت اسم "المجتمعات الأوروبية". ومن بين أنقاض الحروب والآلام، وُلدت أوروبا جديدة تطمح إلى استبدال الصراعات التاريخية بعصر من الاستقرار والازدهار، وترسم طريقها نحو وحدة لم تعرفها القارة يوماً.
لكن التاريخ، بطبيعته المتقلّبة، لا يسير دائماً في خط مستقيم. فبعد عقود من التوسع والتطور، ومع تحوّل المجتمعات الأوروبية إلى "الاتحاد الأوروبي" عام 1993، بدا للحظة أن أوروبا قد تعلّمت دروس الماضي، وأن القارة العجوز قد طوت صفحة القومية المدمّرة. إلا أن بداية القرن الحادي والعشرين حملت رياحاً معاكسة؛ إذ عادت الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة لتتسلّق مشهد السياسة الأوروبية، مستغلّة أزمات اقتصادية واجتماعية لتعيد إنتاج شعارات الماضي، فانتشرت بسرعة كالنار في الهشيم، متغلغلة في البرلمانات والحكومات الوطنية، وحتى في قلب البرلمان الأوروبي نفسه.
والمفارقة الموجعة أن هذا التمدّد جاء رغم بقاء شهود الحرب العالمية الثانية على قيد الحياة، كأن أوروبا، بعد عقود من السلام والرفاه، بدأت تنسى الكوابيس التي دفعتها ذات يوم إلى البحث عن الوحدة والاندماج. وهكذا، انبعثت القومية في صورها القديمة والجديدة، محمولة بأجندات متطرفة وأفكار معادية للمهاجرين، لتجد القارة نفسها مجدداً أمام تساؤل وجودي: فكيف وأين يغزو اليمين المتطرف أوروبا؟
من الهامش إلى السلطة: اليمين المتطرف لاعب رئيسي في السياسة الأوروبية
لم يكن صعود الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة في أوروبا وليد لحظة عابرة أو مجرد موجة سياسية مؤقتة، بل هو انعكاس عميق لتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية ممتدة عبر العقود. فمنذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأت هذه الأحزاب تجد لنفسها موطئ قدم في الساحة السياسية الأوروبية، وسرعان ما تحوّلت من ظاهرة هامشية إلى لاعب رئيسي في معادلة الحكم. ومع تسارع خطاها في تسعينيات القرن الماضي، تضاعفت قوتها الانتخابية، ورسّخت حضورها في المشهد السياسي للقارة مع الوقت.
مع بزوغ القرن الحادي والعشرين، لم تعد هذه الحركات مجرد معارضة هامشية أو أصوات احتجاجية، بل باتت رقماً صعباً في المعادلة الديمقراطية، إذ حصدت مواقع متقدمة في البرلمانات المحلية والوطنية، بل وحتى في البرلمان الأوروبي. وعلى الرغم من تبدّل خطابها وأساليبها مقارنة بنظيراتها في القرن العشرين، إلا أن جوهرها ظل متماسكًا، يحمل في طياته مزيجًا من النزعات القومية، والعداء للمهاجرين، والتشكيك في الاتحاد الأوروبي. واليوم، تحتل الأحزاب اليمينية الشعبوية المتطرفة مكانة مؤثرة في دول القارة، بعد أن حققت مكاسب انتخابية متسارعة في كل من النمسا، إيطاليا، هولندا، المجر، بولندا، فرنسا، وألمانيا.
النمسا: الانتصار التاريخي لليمين المتطرف
كانت الانتخابات الفيدرالية النمساوية لعام 2024 لحظة فارقة في صعود اليمين المتطرف. فقد تمكن حزب الحرية النمساوي (FPÖ) من تحقيق انتصار تاريخي، متربعًا على قمة المشهد السياسي بنسبة 29% من الأصوات، وهي أفضل نتيجة انتخابية له على الإطلاق.
ورأى المحلل السياسي توماس هوفر هذا الفوز "إنه بلا شك زلزال، وموجة صدمة للطبقة السياسية بأكملها"، لأن أقصى اليمين قد شارك سابقًا في الحكم، لكنها المرة الأولى التي يتصدر فيها نتائج الانتخابات.
وجاء هذا التقدم على خلفية استياء الناخبين من تفاقم التضخم، وقضايا الهجرة، وتراجع الثقة في سياسات الحكومة. فبدفع من هربرت كيكل رئيس الحزب، استغل موجة الخوف الاجتماعي والاقتصادي التي تعم القارة الأوروبية.
ويدافع كيكل عن مشروع نزع الجنسية عن النمساويين من أصول أجنبية، كما يريد أن يطلق عليه لقب "فولكسكانسلر" (مستشار الشعب) على غرار الزعيم النازي أدولف هتلر.
ورغم أن ثلاثة أحزاب استطاعت أن تتفق على تشكيل ائتلاف حكومي لاستبعاد حزب الحرية، هلّلت الحركات اليمينية المتشددة في هولندا، فرنسا، وألمانيا، معتبرةً إياه انتصارًا على التيارات الليبرالية التي طالما سيطرت على المشهد الأوروبي.
إيطاليا: من رماد الفاشية إلى السلطة
في إيطاليا، استعاد التاريخ الفاشي للبلاد بعض أنفاسه مع صعود حزب "إخوة إيطاليا" (FdI) بقيادة جورجيا ميلوني، التي قادت التحالف اليميني إلى السلطة بعد فوز الحزب بنسبة 25.99% في انتخابات سبتمبر 2022، في حين حصل ائتلافها على نحو 44% من الأصوات، مما ضمن لها أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ.
وقد تأسس FdI عام 2012، لكنه لم يحتج إلا إلى عقد واحد ليصبح الحزب الأول في البلاد. غير أن جذوره تمتد أبعد من ذلك، إذ تعود إلى "الحركة الاشتراكية الإيطالية" (MSI)، التي أسسها جورجيو ألميرانتي، أحد كبار المسؤولين في وزارة الثقافة خلال عهد بينيتو موسوليني.
غير أن جورجيا ميلوني، رغم هذا الإرث المثير للجدل، ترفض التصنيفات التي تصمها بالفاشية، وتُصرّ على أن حزبها ليس سوى تعبير عن "وطنية متطرفة" ونهج "محافظ" في الشؤون الداخلية والخارجية، لا سيما فيما يتعلق بسياسات الهجرة، التي تتخذ منها موقفًا صارمًا.
ومع ذلك، لا تخفي ميلوني اهتمامها بتلك المرحلة من تاريخ بلادها، تمامًا كما هو الحال مع رئيس البرلمان إغناسيو لا روسا، الذي لا يزال يحتفظ بتمثال نصفي لموسوليني في منزله، في إشارة إلى جذوره العائلية، حيث كان والده سكرتيرًا في الحزب الفاشي خلال حقبة "الدوتشي".
وعلى الرغم من أن الحزب الحاكم اليوم في روما يقدّم نفسه كقوة يمينية وطنية محافظة، إلا أن ارتباطه الرمزي والإيديولوجي بميراث الحركة الفاشية لم ينقطع تمامًا، ما يجعل منه بحسب العديد من المحللين، الحفيد السياسي للحزب الذي حكم إيطاليا في أربعينيات القرن الماضي.
ولم يكن صعود جورجيا ميلوني وحزبها اليميني المتطرف مجرد موجة سياسية عابرة، بل هو تتويج لمسار طويل من التحولات التي شهدتها إيطاليا خلال العقد الماضي.
إذ جاء وصولها إلى السلطة نتيجة تحالف استراتيجي بين القوى اليمينية، حيث تصدرت "إخوة إيطاليا" (Fratelli d'Italia – FdI) ائتلافًا يضم حزب "الرابطة" (Lega) بزعامة ماتيو سالفيني، وحزب "فورتسا إيطاليا" بقيادة سيلفيو برلسكوني. وقد مكّن هذا التحالف اليميني المتشدد من تحقيق نصر انتخابي كاسح، مُعيدًا تشكيل المشهد السياسي الإيطالي، ودافعًا بالخطاب القومي الشعبوي إلى قلب السلطة.
إلى جانب الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة ميلوني، تبرز قوى شعبوية أخرى، وعلى رأسها "حركة النجوم الخمس" (Movimento 5 Stelle – M5S). هذه الحركة، التي تبدو وكأنها نتاج عصر الإعلام الرقمي بامتياز، تأسست عام 2009 على يد الممثل الكوميدي بيبي غريللو، والمستشار في استراتيجيات الويب جيانروبرتو كاساليغيو. في مشهد سياسي تقليدي ومتجذر كالمشهد الإيطالي، بدا صعود حركة ناشئة بهذا الزخم أمرًا استثنائيًا، حيث نجحت بسرعة قياسية في اكتساب شعبية واسعة، متجاوزة القيود الأيديولوجية التقليدية.
فبحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تُعرّف الحركة نفسها بأنها "شابة وشعبوية"، وتطرح نفسها كبديل للأحزاب التقليدية التي فقدت ثقة الناخبين. لم يكن صعودها مجرد ضجة إعلامية، بل تجلى في نتائج ملموسة؛ ففي يونيو/حزيران 2016، حققت نصرًا تاريخيًا بفوزها في انتخابات بلدية روما، ثم بلغت ذروة نجاحها في الانتخابات التشريعية لعام 2018، حينما هيمنت على المشهد السياسي الإيطالي، محدثة زلزالًا في التركيبة السياسية للبلاد.
وما يميز حركة النجوم الخمس هو غموض أيديولوجيتها؛ فهي لا تتبنى موقفًا واضحًا بين اليسار واليمين، بل تمزج بين توجهات شعبوية، يمينية، وبيئية، ما يجعلها كيانًا سياسيًا مرنًا، قادرًا على استقطاب شريحة واسعة من الناخبين الساخطين. إضافة إلى ذلك، ترفض الحركة التدخلات العسكرية الأوروبية والأمريكية في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا والعراق، كما تسعى إلى إعادة النظر في "اتفاقية دبلن" للهجرة، التي تلزم اللاجئين بتقديم طلبات اللجوء في أول دولة يصلون إليها داخل الاتحاد الأوروبي، مطالبة بخفض المساعدات المالية للدول التي ترفض استقبال اللاجئين.
المجر وبولندا: الديمقراطية تحت الحصار
في المجر، أحكم رئيس الوزراء فيكتور أوربان قبضته على الحكم بعد فوزه في الانتخابات للمرة الرابعة على التوالي في أبريل 2022، بنسبة 53.7% من الأصوات. منذ وصوله إلى السلطة عام 2010، وفقًا لمجلة الإيكونوميست البريطانية، استطاع فيكتور أوربان أن يفرغ الديمقراطية في المجر من محتواها، إذ لم يكن أوربان مجرد زعيم سياسي، بل مهندسًا لنظام جديد أعاد رسم المشهد الديمقراطي، حيث أضعف مؤسسات الرقابة، وهمّش المعارضة، وحوّل البلاد إلى ما يشبه "ديمقراطية غير ليبرالية".
منذ أن تبنّى أوربان الخطاب اليميني، باتت رسائله السياسية ترتكز على مفاهيم الوطنية، والقومية، والقيم المسيحية. وعلى الرغم من أنه لا يُعرف عنه ذهابه إلى الكنيسة، أو الالتزام بالممارسات الدينية التقليدية، إلا أنه لا يتردد في تقديم نفسه كـ"القديس ستيفن الحديث"، المدافع عن المسيحية الأوروبية في وجه "الغزاة الجدد". لذلك، يقف أوربان موقفًا صارمًا ضد الهجرة، معتبرًا أن تدفق المهاجرين المسلمين "يهدد الثقافة المسيحية اليهودية" للمجر.
لم يكن موقف المجر من قضايا الهجرة وليد اللحظة، إذ إنها من بين الدول التي لا تلتزم بقرارات محكمة العدل الأوروبية، وترفض الامتثال لسياسات الاتحاد الأوروبي الخاصة باللاجئين. وبموجب سياسات أوربان، مُنع طالبو اللجوء من تقديم طلباتهم داخل البلاد، في انتهاك صارخ لمعايير الهجرة الأوروبية.
رغم عضوية المجر في الاتحاد الأوروبي، لطالما انتهج رئيس وزرائها، فيكتور أوربان، سياسة ذات طابع مستقل، متحررًا – أو بالأحرى متحديًا – مناخ التوجهات السائدة في بروكسل. بدا وكأن أوربان، الذي تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2024، يخوض صراعًا فكريًا وسياسيًا مع ما يسميه "نخب بروكسل"، متهمًا إياها بدفع القارة إلى مسارات لا تخدم مصالح الدول الأعضاء، ومؤخرًا حمّلها مسؤولية تأجيج نار الحرب في أوكرانيا.
وفي خطوة تعكس طموحه لترسيخ رؤيته الخاصة، تعهد أوربان باستغلال الرئاسة المجرية للاتحاد الأوروبي للدفع باتجاه مشروعه السياسي الذي يسعى إلى إعادة تشكيل القارة على أسس أقرب إلى توجهاته المحافظة والقومية، تحت شعار "لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى"، مردّدًا الشعار الذي أطلقه حليف أوربان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أميركا.
وفي ملف الحرب الروسية الأوكرانية، كان من أوائل المعارضين لفرض العقوبات على موسكو، ورفض مقاطعة الغاز الروسي، ما دفع البعض إلى اتهامه بالدفاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متهمين إياه بوضع مصالح بلاده الاقتصادية فوق الاعتبارات الجيوسياسية للاتحاد الأوروبي. كما كان الصوت الوحيد في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي عارض انضمام السويد، رغم الضغوط الأوروبية.
بعد أكثر من عقد على حكمه، لا يزال أوربان يحكم قبضته على السلطة في المجر، متبعًا نهجًا لا يخلو من الجدل، حيث يستمر في تحدي سياسات الاتحاد الأوروبي، مع تعزيز رؤيته لـ"ديمقراطية غير ليبرالية" ترتكز على الهوية القومية والمسيحية، معادية للهجرة، ومنفصلة عن التيار الأوروبي السائد.
ولا تقتصر سياسات وتصريحات أوربان المتطرفة على قضية الهجرة، بل امتدت إلى قضايا دولية شائكة، كان آخرها موقفه من حرب غزة، حيث رحب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، متجاهلًا قرار المحكمة الجنائية الدولية الساعي إلى اعتقاله.
وفي بولندا، خاض حزب "القانون والعدالة" (PiS) معركة طويلة ضد التيارات الليبرالية منذ وصوله إلى السلطة عام 2015، رغم أن البلاد كانت حتى ذلك الوقت نموذجًا للاستقرار الديمقراطي والاقتصادي في شرق أوروبا. إلا أن الحزب اليميني الشعبوي قلب الطاولة، وأطلق سياسات معادية للاتحاد الأوروبي، مما جعله في مواجهة مستمرة مع بروكسل.
فرنسا وألمانيا وهولندا: قلاع الديمقراطية تهتز
شهدت الانتخابات الأوروبية لعام 2024 تحولًا سياسيًا غير مسبوق في فرنسا، حيث تمكن حزب التجمع الوطني (Rassemblement National – RN)، ممثل أقصى اليمين بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا، من تحقيق انتصار ساحق، محققًا 31.37% من الأصوات وحاصدًا 30 مقعدًا برلمانيًا. هذا الإنجاز وضع الحزب في الصدارة بفارق شاسع عن أقرب منافسيه، حيث لم يتمكن حزب الرئيس إيمانويل ماكرون سوى من حصد 13 مقعدًا فقط، وهو الرقم نفسه الذي حققه الحزب الاشتراكي، بينما جاء حزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلانشون متأخرًا بـ9 مقاعد فقط.
لم يكن هذا الصعود مجرد انتصار انتخابي لحزب لطالما عانى من التهميش السياسي، بل عكس تحولًا جذريًا في المزاج الانتخابي الفرنسي، حيث بات أقصى اليمين لاعبًا رئيسيًا في السياسة الأوروبية، كاسرًا حاجز العزلة السياسية التي فرضت عليه لعقود.
في 30 يونيو/حزيران، جاءت الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية لتعزز التفوق الانتخابي لحزب التجمع الوطني، حيث تصدر المشهد بحصوله على 19.01% من الأصوات، بعد جمعه أكثر من 9.37 مليون صوت. هذا الإنجاز، الذي وصف بالسابقة السياسية، جعل فرنسا تبدو وكأنها على وشك منح مفاتيح قصر ماتينيون—مقر رئاسة الحكومة—لليمين المتطرف، في خطوة كانت تعد من المحظورات السياسية لعقود.
إلا أن المفاجأة الكبرى جاءت في الجولة الثانية، حيث تراجعت آمال التجمع الوطني بشكل درامي، ليحلّ في المركز الثالث بـ 142 مقعدًا فقط، متخلفًا عن الجبهة الشعبية اليسارية الجديدة، التي تصدرت المشهد بحصولها على 178 مقعدًا، تلاها تحالف الرئيس ماكرون بـ168 مقعدًا. وبهذا، فشل اليمين المتطرف في تحقيق الاختراق السياسي الذي توقعه الكثيرون، رغم الزخم الذي رافق حملته الانتخابية.
أظهرت نتائج الانتخابات أن الفرنسيين، رغم دعمهم المتزايد لأقصى اليمين في الجولة الأولى، أقدموا على مراجعة خياراتهم في الجولة الثانية، مانعين التجمع الوطني من الوصول إلى السلطة التنفيذية. إلا أن هذا لم يكن انتصارًا حاسمًا لليسار أو الوسط، بل أقرب إلى تفويض سياسي مؤقت، يُعبر عن حالة من التردد وعدم الاستقرار في المشهد السياسي الفرنسي، حيث لم يحظَ أي تيار بأغلبية واضحة تمكنه من فرض سياسات مستقرة.
ورغم أن حزب التجمع الوطني لم ينجح في تصدر نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية، إلا أن انتخابات 2024، وقبلها انتخابات 2022، كرّست تحولًا جوهريًا في المشهد السياسي الفرنسي، إذ أنهت عقودًا من العزلة السياسية التي عانى منها الحزب منذ تأسيسه في 1972 على يد جان ماري لوبان. فالمواقف التي كانت تمثل سابقًا هوامش سياسية، باتت اليوم تحظى بتأييد شعبي واسع، ما يعكس تغيرًا عميقًا في المشهد الانتخابي الفرنسي.
في موازاة ذلك، شهدت انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2024 انتصارًا جديدًا لحزب التجمع الوطني، حيث تمكنت قائمة الحزب بقيادة مارين لوبان وجوردان بارديلا من مضاعفة عدد مقاعدها مقارنة بعام 2019، لترتفع من 18 إلى 30 مقعدًا، متجاوزة حزب الرئيس ماكرون بفارق شاسع، ومؤسسةً بذلك لأكبر كتلة يمينية متطرفة داخل البرلمان الأوروبي.
رغم الانتكاسة التي تعرض لها التجمع الوطني في الانتخابات التشريعية، فإن المكاسب التي حققها في الانتخابات الأوروبية تعكس ديناميكية سياسية جديدة في فرنسا، حيث لم يعد اليمين المتطرف مجرد ظاهرة انتخابية عابرة.
في ألمانيا، التي طالما اعتُبرت حصنًا لليبرالية والديمقراطية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت الانتخابات التشريعية لعام 2025 تحولًا سياسيًا تاريخيًا، إذ سجلت نسبة مشاركة غير مسبوقة تجاوزت 83%، وهي النسبة الأعلى منذ سقوط جدار برلين وإعادة توحيد الألمانيتين عام 1990. في خضم هذا الحراك الانتخابي، حقق حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) نجاحًا غير مسبوق، حيث حصد أكثر من 20% من الأصوات، ما جعله يرسّخ موقعه كقوة سياسية لا يمكن تجاهلها.
ورغم أن المستشار المنتخب فريدريش ميرتس أكد بشكل قاطع رفضه التحالف مع الحزب اليميني المتطرف تحت أي ظرف، ما يعني بقاء AfD في صفوف المعارضة، إلا أن هذه الانتخابات مثّلت علامة فارقة في مسار الحزب، الذي تمكّن من مضاعفة عدد مقاعده في البوندستاغ مقارنة بانتخابات 2021، مما عزز حضوره على الساحة السياسية الألمانية بشكل غير مسبوق.
وعلى الرغم من أن حزب البديل من أجل ألمانيا يُعتبر منظمة متطرفة من قبل أجهزة الاستخبارات المحلية في ثلاث ولايات ألمانية، ويخضع للتحقيق من قبل السلطات الوطنية بسبب معاداة الإسلام ومواقفه المتطرفة المناهضة للمهاجرين، فقد استطاع تحقيق "اختراقات في الولايات الشرقية متسلحاً بخطاب قومي عنصري معاد للهجرة والإسلام".
فوفقًا لمجموعة The Conversation البحثية الأوروبية، فإن حزب البديل من أجل ألمانيا يشهد اليوم طفرة غير مسبوقة، بعد مسيرة من الصعود التدريجي. ففي أول انتخابات فيدرالية خاضها عام 2013، فشل الحزب في الفوز بأي مقعد برلماني، لكنه سرعان ما بدأ في حصد المكاسب الانتخابية. بين عامي 2017 و2021، تمكّن AfD من تأمين نحو 13% من مقاعد البوندستاغ، ليصبح ثالث أكبر حزب في البرلمان الألماني. إلا أن شعبيته تراجعت بشكل طفيف في انتخابات 2021، ليحتفظ بـ 11% فقط من المقاعد. أما اليوم، فقد قلب الحزب المعادلة تمامًا، حيث أصبح ثاني أكبر قوة سياسية في ألمانيا، ما يشير إلى تحولات عميقة في المزاج الانتخابي للبلاد.
أما في هولندا، فقد شهدت الانتخابات البرلمانية الهولندية الأخيرة، التي جرت في 22 نوفمبر 2023، زلزالًا سياسيًا غير مسبوق، حيث تصدر حزب الحرية (PVV) بقيادة اليميني المتطرف خيرت فيلدرز المشهد الانتخابي لأول مرة في تاريخه، بحصوله على 37 مقعدًا من أصل 150 في مجلس النواب. لم يكن هذا الفوز مجرد تحول انتخابي، بل شكل أكبر مفاجأة سياسية في هولندا منذ الحرب العالمية الثانية.
ورغم هذا الانتصار التاريخي، لم ينجح فيلدرز في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء، حيث تولى ديك شوف رئاسة الحكومة منذ يوليو 2024، على رأس ائتلاف يميني مهمته الأساسية تنفيذ سياسات هجرة صارمة تعد الأكثر تشددًا في تاريخ البلاد. كان على فيلدرز التراجع عن طموحاته في قيادة الحكومة، بعدما اصطدم بمعارضة من شركاء الائتلاف الذين اعتبروا خطابه المعادي للإسلام والمشكك في الاتحاد الأوروبي متطرفًا للغاية ليكون على رأس السلطة التنفيذية في البلاد.
وقد أمضى فيلدرز ربع قرن في البرلمان الهولندي، دائمًا في صفوف المعارضة. ولم يقترب من الحكم فعليًا إلا في عام 2010، عندما دعم الائتلاف الأول لرئيس الوزراء الأسبق مارك روته، لكنه لم ينضم رسميًا للحكومة، وأسقطها بعد 18 شهرًا فقط بسبب خلاف حول سياسات التقشف.
يُعرف فيلدرز بكونه أحد أبرز وجوه الشعبوية الأوروبية، بخطابه العنصري ضد اللاجئين، ومواقفه اليمينية المتشددة التي كلفته إدانة قضائية بإهانة الجالية المغربية في هولندا. وقد تضمن برنامجه الانتخابي دعوات صريحة لإجراء استفتاء حول خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى سياسات صدامية مثل "وقف اللجوء" و"حظر المدارس الإسلامية والمصاحف والمساجد".
ويعتبر فيلدرز مؤيداً قوياً للاحتلال الإسرائيلي ومؤيد لنقل سفارة هولندا إلى القدس، مقابل إغلاق البعثة الدبلوماسية الهولندية في رام الله، الخاضعة للسلطة الفلسطينية.
ورغم نجاح بعض الأحزاب في إقناعه لإبعاده عن تصدر المشهد في رئاسة الحكومة، يبقى فوز فيلدرز مؤشرًا على تحول عميق داخل المجتمع الهولندي، يطرح تساؤلات كبيرة حول مستقبل التوازن السياسي في البلاد، ومدى قدرة النخبة الحاكمة على كبح المد اليميني المتطرف دون خسارة ثقة الناخبين.
كيف عاد اليمين المتطرف ليجتاح أوروبا؟ وما الذي يغذي فكره وسحره الشعبوي؟
تتناول مجلة علم الاجتماع الدولي في مقالة نشرها الأكاديمي مراد أكتاش تنامي صعود اليمين المتطرف الشعبوي في أوروبا، مشيرة إلى أن أسبابه معقدة ومتداخلة. أحد العوامل الرئيسية هو الإحباط الشعبي من أداء الأحزاب التقليدية في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالأزمة المالية عام 2008 وما تبعها من سياسات تقشفية عمقت التفاوتات وأضعفت الثقة في النخب السياسية، ما فتح المجال أمام الأحزاب اليمينية المتطرفة لاستغلال هذا السخط وتقديم نفسها كبديل.
وتشير الدراسة إلى أن هذه الأحزاب نجحت في توظيف الأزمات لصالحها، لا سيما مع تفاقم موجات الهجرة منذ 2015، حيث روَّجت لروايات تربط اللاجئين بارتفاع البطالة والتهديدات الأمنية، ما عزز من شعبيتها. وترى المجلة أن هذه الأحزاب تتقن تبسيط القضايا المعقدة، وتقسم المجتمع إلى "نحن" مقابل "هم"، ما يسهم في إضعاف الديمقراطية وتعزيز النزعات الاستبدادية.
يحلل الأكاديمي كينيث فوغان في مقال له، العلاقة المتشابكة بين الدين والعلمانية في أوروبا في دعم اليمين المتطرف، مشيرًا إلى أن هذه الأحزاب اليمينية توظف الهوية المسيحية لأوروبا كذريعة لمعاداة الإسلام واللاجئين المسلمين كما في إيطاليا والمجر، وأيضًا العلمانية في تصنيف المهاجرين المسلمين كعقبات أمام التقدم كما في حالة هولندا.
أما الأكاديمي الإيطالي أندريا ماريا ماكاريني، فيحاول أن يفسر صعود اليمين المتطرف في أوروبا من مفهوم "البربرية الحديثة"، في مقالة له، يشرح كيف أن عملية التحديث ليست مجرد قوة تقدمية بحتة، بل إنها تحمل في طياتها تناقضات وأزمات يمكن أن تؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من البربرية، وهو ما يفسر، جزئيًا، صعود اليمين المتطرف في أوروبا.
فيشير ماكاريني إلى أن التحديث ليس عملية خطية أو موحدة، بل يتطور بطرق مختلفة عبر الثقافات، مما يخلق توترات بين التقليد والحداثة، وهي التوترات التي يعتاش عليها الخطاب اليميني المتطرف. ففي المجتمعات التي شهدت تحولات ديموغرافية واقتصادية سريعة، حيث تصاعدت الهجرة وزادت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، نجح اليمين المتطرف في تصوير التحديث على أنه تهديد مباشر للنسيج الوطني، مؤججًا المخاوف من فقدان الهوية والسيادة لصالح قوى عالمية أو نخب سياسية "منفصلة عن الشعب".
وبهذا المعنى، فإن صعود الحركات اليمينية المتطرفة لا يمكن فهمه فقط من خلال العوامل الاقتصادية أو الشعبوية، بل هو أيضًا نتاج أزمة تحديث غير متوازنة، حيث يؤدي الإحساس بالفقدان الاجتماعي والثقافي إلى ردود فعل سياسية متطرفة، ترفض المؤسسات الديمقراطية وتسعى إلى إعادة فرض رؤى سلطوية تتناسب مع الحنين إلى الماضي، وهو ما يمثل شكلاً حديثًا من "البربرية السياسية" داخل المجتمعات المتقدمة.
كما لو أن الزمن يدور في حلقة مفرغة، تعود أوروبا اليوم لمواجهة شبح القومية المتطرفة الذي ظنّت أنها دفنته تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية. بعد عقود من التكامل والازدهار، تهتز أسس المشروع الأوروبي تحت وطأة صعود اليمين المتطرف، الذي يتغذى على مخاوف الهوية والأزمات الاقتصادية وتراجع الثقة في المؤسسات الديمقراطية.
فهل تتجه القارة العجوز إلى إعادة إنتاج أخطاء الماضي؟ أم أنها ستتمكن من استيعاب هذه الموجة وإعادة تشكيل ديمقراطيتها بما يضمن استقرارها؟ في معركة بين الذاكرة والنسيان، وبين الاندماج والانقسام، يبقى مصير أوروبا معلقًا بين دروس التاريخ وإغراءات الشعبوية، وبين من يسعى للحفاظ على وحدتها، ومن يحلم بإعادة رسم حدودها وفق خرائط الماضي.
نيسان ـ نشر في 2025/03/06 الساعة 00:00