ما بعد تصريحات نتنياهو

د. محمد أبو رمان
نيسان ـ نشر في 2025/08/18 الساعة 00:00
من المفاجئ – أو هكذا بدا – أن تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة حول «إسرائيل الكبرى» جاءت كأنها صدمة للرأي العام العربي والأردني، بينما الواقع أنّ السياسات الإسرائيلية منذ سنوات كانت تُعلن وتُطبّق هذا المشروع عملياً قبل أن يُصرَّح به خطابياً. ما قاله نتنياهو لم يكن زلة لسان، ولا سراً خطيراً كشف عنه فجأة، بقدر ما كان إعلاناً رسمياً عن مرحلة جديدة في الخطاب والسلوك الإسرائيلي، مرحلة تتجاوز تصفية أي فكرة جديّة عن الدولة الفلسطينية المستقلة، نحو إعادة تشكيل المشهد الإقليمي برمّته.
الأخطر أنّ ما يحدث في السويداء بجنوب سوريا اليوم لا يقلّ خطورة على الأردن والأمن الإقليمي عما يحدث في الضفة وغزة والقدس. إسرائيل تتحرك في أكثر من مسرح، ليس فقط بعيونها على الفلسطينيين، بل بعيون أوسع على الإقليم بأسره، بما فيه الأردن الذي بات – موضوعياً – في قلب هذه التحولات.
التصريحات الرسمية الأردنية، من وزارة الخارجية ووزير الاتصال الحكومي، وردود الفعل الرمزية والدبلوماسية، ضرورية ومهمة للرأي العام المحلي والخارجي، وخطوة باتجاه التعبئة العربية والإقليمية. لكن ذلك وحده لا يكفي. المطلوب مراجعات وطنية عميقة تنطلق من إدراك استراتيجي لطبيعة المشروع الصهيوني – الإسرائيلي، الذي أعلن عن نفسه عملياً قبل أن يصرّح به نتنياهو. هذا المشروع يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي الأردني، ليس فقط في أبعاده التوسعية أو الهيمنية، بل أيضاً في انعكاساته اليومية على الضفة والقدس، وعلى معادلات الأردن الداخلية والخارجية.
في هذا السياق، تكتسب نظرية مجتمع الأمن الإقليمي (Regional Security Complex Theory) أهميتها في قراءة اللحظة الراهنة. فهذه النظرية تفترض أن مناطق معينة من العالم – ومنها الشرق الأوسط – تشكل أنظمة أمنية مترابطة، بحيث تصبح التهديدات الأمنية متبادلة ومتداخلة بين دولها. من هنا، لا يمكن للأردن أن ينظر إلى ما يحدث غرب النهر، أو في جنوب سوريا، أو في لبنان والعراق، بوصفه شأناً بعيداً عنه. الإقليم كله يعمل كمنظومة أمنية واحدة، وأي خلل أو أزمة في أي دولة فيه ينعكس مباشرة على الأردن. لذلك فإنّ خيار «الانعزال» أو «التقوقع» لم يعد مطروحاً، بل سقط عملياً مع طبيعة التهديدات العابرة للحدود.
على الجهة المقابلة لا يفيد الخطاب العاطفي الانفعالي، الذي يصدر عن بعض القوى والشخصيات السياسية، الدولة الأردنية في هذه اللحظة الحساسة، فهنالك نموذج واضح في تاريخنا المعاصر للمغامرات الكارثية غير مدروسة النتائج. المطلوب مقاربة عقلانية، تستند إلى الدراسات والسيناريوهات والقراءة الواقعية لموازين القوى. من غير المقبول أن نعيش هذه التحولات الكبيرة والخطيرة، بينما تغيب عن مراكز الدراسات والجامعات والنخب السياسية أوراق السياسات والنقاشات الجادة التي تساعد صانع القرار في التعامل مع المستقبل.
إنّ الأسئلة التي تواجهنا اليوم أكثر تعقيداً وتشابكاً من أي وقت مضى: إلى أين تسير المنطقة في ضوء ما يجري في سوريا والعراق ولبنان، وكيف ستنعكس هذه التحولات على الأردن مباشرة؟ وكيف يمكن أن نعيد تعريف مفهوم الأمن القومي الأردني في ظل هذه التغييرات، وبالارتباط مع مستقبل الضفة الغربية والقدس والوصاية الهاشمية على المقدسات، ومع السيناريوهات المحتملة لمصير السلطة الفلسطينية؟ ثم ما هي حدود الإمكانيات الأردنية وأوراق القوة المتاحة، وكيف نوازن بين اعتبارات الدور الإقليمي ومحدداته، وبين الضغوط الدولية والإقليمية، وبين متطلبات الجبهة الداخلية التي ترتبط بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟
تتصل هذه الأسئلة أيضاً بعلاقاتنا الخارجية: من هم الحلفاء الفعليون للأردن، ومن هم الخصوم والأعداء في هذه المرحلة، وما الذي يمكن أن نستفيده من الدروس القاسية التي كشفتها الحروب والأزمات الأخيرة، بخاصة حروب الجيل الخامس؟ بل كيف سينعكس كل ذلك على مشروع التحديث السياسي في الداخل، وعلى قدرة الدولة على الدفع بالتشريعات والإصلاحات قدماً أو إبطائها؟ هذه الإشكاليات لا بد أن تتحول إلى محور نقاش معمق داخل الأوساط الفكرية والسياسية والأمنية ومراكز التفكير، حتى لا نبقى في وضعية رد الفعل والارتجال والصدمة أمام كل تطور جديد.
    نيسان ـ نشر في 2025/08/18 الساعة 00:00