الأمراض المستعصية في الأردن - الجزء الثاني

نيسان ـ نشر في 2025/08/18 الساعة 00:00
تواجه الأنظمة الصحية في العالم تحديات متزايدة مع تصاعد معدلات الأمراض المستعصية والنادرة، ولا سيما تلك التي تصيب الأطفال في المجالات المناعية والروماتيزمية، وأمراض الاستقلاب، والاعتلالات العصبية الوراثية مثل الوهن العضلي الوراثي. الأردن، رغم موارده المحدودة مقارنة ببعض الدول المتقدمة، استطاع أن يحقق خطوات ملموسة في هذا المضمار، مستفيدًا من التخطيط الصحي المتكامل، ودعم القيادة الهاشمية، وتطور البنية التحتية الطبية.
ويبرز مستشفى الملكة رانيا العبدالله للأطفال بوصفه مركزًا متقدمًا، ليس فقط لتقديم العلاج المتخصص، بل أيضًا لقيادة جهود التوعية، والكشف المبكر، والبحث العلمي، وتوفير الرعاية منخفضة الكلفة نسبيًا مقارنة بالمراكز الإقليمية والدولية.
هذا المستشفى يشكل نقطة التقاء بين الرؤية الاستراتيجية لتقليل عبء المرض على الأسر الأردنية، والتقنيات الطبية المتطورة التي اختصرت سنوات من الفجوة بين الأردن والمراكز الطبية الكبرى في العالم. فهو يجمع بين التشخيص المبكر الذي يقلل من المضاعفات ويخفض الكلفة النهائية للعلاج، وبرامج التثقيف الصحي التي تزيد من وعي الأهل، وتدفع نحو التدخل العلاجي في المراحل الأولى.
المحتوى:
الأمراض المستعصية عند الأطفال في الأردن – الواقع الرقمي:
تشير بيانات وزارة الصحة لعام 2024 إلى أن نسبة أمراض الأطفال المناعية والروماتيزمية النادرة تبلغ نحو 18–22 حالة لكل 100,000 طفل، بينما تصل أمراض الاستقلاب الوراثية إلى نحو 7 حالات لكل 100,000، مع تسجيل نحو 15–20 حالة جديدة سنويًا من الوهن العضلي الوراثي.
التحدي المزدوج – التشخيص المتأخر والكلفة العالية:
قبل إنشاء برامج الكشف المبكر، كانت 45% من الحالات تصل إلى المستشفيات في مراحل متقدمة، ما يزيد كلفة العلاج بنسبة تتجاوز 60% مقارنة بالتدخل المبكر.
دور مستشفى الملكة رانيا العبدالله للأطفال كمركز وطني مرجعي:
المستشفى يستقبل سنويًا أكثر من 400,000 زيارة أطفال، منها نحو 30% حالة إحالة متقدمة تتعلق بأمراض مناعية وروماتيزمية واستقلابية وعصبية وراثية، مما يجعله المرجع الأول على مستوى المملكة.
الجسر بين التوعية والكشف المبكر:
أطلق المستشفى منذ 2018 برامج تثقيفية استهدفت أكثر من 30,000 ولي أمر، مع تدريب الأطباء العامين على التعرف على العلامات المبكرة، مما أدى إلى رفع نسبة التشخيص المبكر من 35% إلى أكثر من 70% خلال خمس سنوات.
الكلفة الاقتصادية والعبء المجتمعي:
تشير التقديرات إلى أن التدخل المبكر في أمراض الاستقلاب وحدها يوفر على النظام الصحي الأردني ما يقارب 2.5 مليون دينار سنويًا، نتيجة تقليل الحاجة للعلاج طويل الأمد أو الإقامة الطويلة في المستشفى.
التقنيات الطبية المتقدمة:
إدخال تقنيات، التسلسل الجيني الكامل (Whole Genome Sequencing)، وفحوص المناعة المتقدمة (Immunophenotyping)، جعل الأردن قادراً على الوصول إلى دقة تشخيصية تضاهي مراكز طبية مرجعية عالمية.
الشراكات الأكاديمية والبحثية:
المستشفى يعمل بتعاون وثيق مع الجامعات الأردنية، إضافة إلى شراكات بحثية مع مراكز أوروبية وأمريكية، مما أتاح تنفيذ دراسات متعددة المراكز حول الأمراض المناعية الوراثية النادرة.
التأثير على السياسات الصحية الوطنية:
التجارب الناجحة في المستشفى أسهمت في صياغة بروتوكولات وطنية للكشف المبكر، مثل برنامج فحص المواليد لأمراض الاستقلاب، وبرنامج الكشف المبكر عن أمراض المناعة الأولية.
التكامل مع القطاع الصحي الخاص:
بالرغم من أن المستشفى حكومي، إلا أن تعاونه مع القطاع الخاص مكّن من استقطاب تقنيات تشخيصية متقدمة وتبادل الخبرات، مما ساعد على تقليل فترة انتظار الفحوص من أشهر إلى أسابيع.
دعم المرضى والأسر نفسيًا واجتماعيًا:
يضم المستشفى وحدة دعم نفسي واجتماعي تقدم خدمات لأكثر من 800 أسرة سنويًا، مما يقلل من معدلات الانقطاع عن العلاج.
الإنجازات الإقليمية:
أصبح المستشفى يستقبل حالات إحالة من دول مجاورة، بمعدل 150–200 حالة سنويًا، ما عزز مكانة الأردن كمركز إقليمي لعلاج أمراض الأطفال المعقدة.
التوجه المستقبلي – الطب الشخصي (Personalized Medicine):
يجري العمل على مشروع متكامل لتطبيق العلاج الجيني والعلاج المناعي الموجه، خاصة في أمراض المناعة الوراثية النادرة، مع خطط لتطبيقه على نطاق وطني بحلول 2030.
تحليل وتأثير الأرقام:
إذا نظرنا إلى المؤشرات السابقة، نجد أن الاستثمار في الكشف المبكر والتقنيات المتقدمة ليس رفاهية، بل استراتيجية اقتصادية وصحية في آن واحد. على سبيل المثال، متوسط كلفة علاج طفل مصاب بمرض مناعي نادر يصل إلى 15,000 دينار سنويًا في المراحل المتأخرة، بينما يمكن أن تنخفض الكلفة إلى 5,000 دينار إذا تم التشخيص مبكرًا مع تدخل وقائي فعال.
كما أن زيادة نسب التشخيص المبكر تعني انخفاض معدلات الإعاقة المزمنة عند هؤلاء الأطفال من 40% قبل 2018 إلى نحو 18% حاليًا، مما ينعكس على جودة حياة الطفل والأسرة، ويقلل من العبء الاجتماعي والاقتصادي طويل الأمد.
خلاصة:
إن مستشفى الملكة رانيا العبدالله للأطفال يمثل أكثر من مجرد مؤسسة علاجية، فهو محور وطني يجمع بين التشخيص المبكر، التثقيف الصحي، الأبحاث الطبية، والسياسات الصحية الذكية، ويقدم نموذجًا واقعيًا لكيف يمكن لمؤسسة متخصصة أن تجسر الفجوة بين تحديات الأمراض المستعصية وإمكانات الدولة.
لقد أثبتت التجربة الأردنية أن الاستثمار في البنية التحتية المتخصصة، والشراكات العلمية، والتقنيات الحديثة، قادر على تحويل التحديات إلى قصص نجاح، وعلى جعل الأردن مركزًا إقليميًا في علاج أمراض الأطفال المعقدة، مع الحفاظ على الكلفة في مستويات يمكن للنظام الصحي والمجتمع تحملها.
وبينما تتجه الأنظمة الصحية العالمية نحو الطب الشخصي والوقائي، فإن مستشفى الملكة رانيا العبدالله للأطفال يسير بخطى ثابتة نحو أن يكون جسر الأمل الذي يعبر به أطفال الأردن نحو حياة صحية أفضل، محققًا إنجازات تفتخر بها الدولة، ويحتذي بها الإقليم.
    نيسان ـ نشر في 2025/08/18 الساعة 00:00