'معادلة ما بعد الاعتراف'.. أردنيًا

د. محمد أبو رمان
نيسان ـ نشر في 2025/09/24 الساعة 00:00
من يتابع خطابات ومداولات الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام يلحظ تحوّلاً جوهرياً في المواقف الدولية إزاء القضية الفلسطينية، فقد شكّلت الاعترافات المتتالية من دول كبرى، كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وكندا وأستراليا، بدولة فلسطين، مؤشراً إيجابياً بالغ الأهمية في مواجهة السياسات المتسارعة لحكومة نتنياهو، التي تسعى بكل وضوح إلى إنهاء أي إمكانية واقعية لقيام الدولة الفلسطينية عبر الاستيطان المكثّف وتقطيع أوصال الضفة الغربية وتحويلها إلى جزر سكانية معزولة، فضلاً عن مشروع تهويد القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية فيها.
لكن، وعلى الرغم من هذا التحوّل الدولي، إلا أنّ القضية الفلسطينية تقف اليوم أمام مفارقة جلية؛ فهذه الاعترافات التي يُفترض أن تمنح زخماً كبيراً لمشروع الدولة، قد تكون في الوقت نفسه مدخلاً إلى تحديات أشدّ خطورة، فحكومة نتنياهو والمتطرفون المحيطون به لوّحوا بضمّ أجزاء واسعة من الضفة كردّ مباشر على العالم بأسره، بينما تترقب المنطقة اللقاء القريب بين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي تبدو إدارته اليوم أكثر تصلباً في دعم إسرائيل، بل وأكثر صراحة في تبني رؤيتها، من دون أن تطرح حتى تلك الصيغة المنقوصة التي عُرفت سابقاً بـ»صفقة القرن».
هذه التحولات الدولية والإقليمية تضع السياسة الأردنية أمام واقع جيوسياسي جديد بالغ التعقيد. فالأردن كان حاضراً بفاعلية في هذه المرحلة، من خلال خطاب دبلوماسي واضح وحاسم أسهم في تعميق عزلة الحكومة الإسرائيلية، التي أقرّ بها نتنياهو نفسه. غير أنّ هذا الدور الأردني لن يمرّ من دون تداعيات، بخاصة مع حكومة إسرائيلية تتبنّى أجندة متطرفة، وهو ما يفسّر مستوى غير مسبوق من التوتر في العلاقات الأردنية – الإسرائيلية، تجلّى في خطابات الملك خلال القمة العربية الإسلامية في الدوحة وفي الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي تصريحات وزير الخارجية أيمن الصفدي الذي وصف الحكومة الإسرائيلية بالتطرف وبارتكاب المجازر، وطالب بموقف عربي ودولي رادع لسلوك نتنياهو.
إذن، نحن أمام سؤال استراتيجي كبير: ما خطة العمل الوطنية في مواجهة هذه التحديات التي باتت تمسّ الأمن القومي الأردني بصورة مباشرة؟
الإشكالية هنا مزدوجة؛ فمن جهة، المواقف الأوروبية والدولية، رغم أهميتها الرمزية والسياسية، ما تزال محدودة التأثير في ميزان القوى الفعلي، فأوروبا ليست لاعبا رئيسيا في الصراع، ولا تبدو قادرة على تحدي الولايات المتحدة في الملف الفلسطيني، ثم إنّ هذه الاعترافات لا تحدّد بوضوح حدود الدولة الفلسطينية على خطوط 1967، ما يمنح إسرائيل هامشاً واسعاً للاستمرار في سياساتها على الأرض. والأهم أنّها تبقى في الإطار الرمزي أكثر من كونها خطوات عملية تُترجم إلى وقائع سياسية ملزمة.
أما الموقف العربي فما يزال متواضعاً، فقمة الدوحة، على أهميتها، لم تنتج خطوات عملية قادرة على تغيير قواعد اللعبة أو بناء منظومة ردع حقيقية في مواجهة نتنياهو. وما تزال السياسات العربية متفرقة، يغلب عليها الطابع الفردي والآني، وتفتقر إلى التفكير الاستراتيجي الجماعي.
بناءً على هذه المعطيات، يصعب توقّع أن تشكّل الاعترافات الدولية الجديدة ضغطاً كافياً لردع نتنياهو، بل ربما تدفعه إلى تسريع خطواته في الضفة. وهذا يعني أنّ العبء الأكبر في التعامل مع التداعيات سيتحمّله الفلسطينيون أولاً، ثم الأردن ثانياً، بحكم الترابط العميق للمصالح الوطنية والاستراتيجية الأردنية مع الضفة الغربية. هنا، يصبح لزاماً على الأردن أن يعيد تعريف أولوياته وخياراته الاستراتيجية في مواجهة مرحلة جديدة أشدّ خطورة. الأمر لا يتصل فقط بالملف الفلسطيني والقدس، بل يتجاوز ذلك إلى حسابات الأمن القومي الأردني الشاملة، في ظل متغيرات موازية في الجوار السوري وخطة «ممر داوود» التي يحلم بها نتنياهو للتمدد الإقليمي شرقاً، سواء بصورة مباشرة أو من خلال الحلفاء، وما قد تحمله من تهديدات إضافية.
الخلاصة: لم يعد ممكناً التعامل مع التطورات بالقطعة أو بمنطق إدارة الأزمات اليومية. نحن أمام مرحلة تتطلب وعياً سياسياً عميقاً وخطاباً داخلياً صريحاً، ورؤية استراتيجية وطنية واضحة، تعرّف بدقة التهديدات والأولويات، وتبني تحالفات إقليمية على أسس أكثر صلابة. فالمعادلة الراهنة تنذر بتحولات كبرى، وعلى الأردن أن يكون مستعداً لها بخيارات عملية بعيدة المدى، لا بمجرد ردود فعل آنية.
    نيسان ـ نشر في 2025/09/24 الساعة 00:00