لماذا تآكل الحلم بالديمقراطية.. عربياً؟
نيسان ـ نشر في 2025/09/29 الساعة 00:00
يظهر الباروميتر العربي (في نسخته الأخيرة) تحولات عميقة وخطيرة في اتجاهات الرأي العام العربي، ويمكن تلخيص النتيجة الأبرز التي يسجلها مايكل روبنز، معدّ تقرير الاستطلاع، هي أن عدداً كبيراً من المواطنين العرب لم يفقدوا الثقة بالنظم الديمقراطية فحسب، بل تحوّلت مواقفهم أيضاً نحو تأييد النظم غير الديمقراطية، بخاصة في السنوات التي أعقبت الربيع العربي.
صحيح أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تزال تحظى بثقة الغالبية، إلا أنّ المقارنة مع نتائج الباروميتر نفسه قبل عقد من الزمن (2012-2014) تظهر تراجعاً واضحاً في القبول بها. ففي العراق تراجعت الثقة 34 نقطة، وفي تونس 28 نقطة، وفي لبنان 26 نقطة، وفي الأردن 15 نقطة. في المقابل ارتفع القبول بنظام حكم الرجل القوي في معظم هذه الدول، إذ صعدت شعبيته في العراق 38 نقطة، وفي تونس 27 نقطة، وفي المغرب 14 نقطة، وفي لبنان 12 نقطة، بينما ارتفعت في الأردن خمس نقاط فقط، لكن نسبته كانت أصلاً مرتفعة قبل عقد من الزمن.
هذا الميل لا يقتصر على خيار الرجل القوي، بل يمتد إلى ما يُعرف بالدكتاتورية العادلة، حيث تظهر الأرقام صعوداً لافتاً: في المغرب 26 نقطة، وفي الأردن 24 نقطة، وفي لبنان 20 نقطة. ويفسر روبنز هذا التحول بأن الناس باتوا يعرّفون الديمقراطية انطلاقاً من مخرجاتها لا من إجراءاتها، أي من قدرتها على تحسين حياتهم اليومية، عبر جودة الخدمات والفرص الاقتصادية والعدالة في توزيع الموارد. الديمقراطية بالنسبة لهم لم تعد قيمة قائمة بذاتها، بل وسيلة مشروطة بالنتائج، فيما أظهرت النتائج أنّ هنالك قبولاً ملحوظاً في كل من الأردن وموريتانيا لنظام حكم يقوم على الشريعة الإسلامية.
ورغم أن هذه النتائج قد تبدو صادمة، إلا أنها منطقية إذا ما قورنت بالواقع الراهن. فالدول التي شهدت «ثورات الربيع العربي» تعيش اليوم أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، وتراجعت فيها مستويات المعيشة والاستقرار. أمام هذا المشهد، أصبحت الأولويات الشعبية أكثر ميلاً إلى الاستقرار والأمن والاقتصاد، وأقل تعلقاً بالحرية والديمقراطية.
هنا يتضح الخطأ الكبير الذي وقع فيه سياسيون ومثقفون عرب من القوى الإصلاحية عندما لم يميزوا بين مرحلة الانتقال الديمقراطي، الحساسة والهشة، وبين مرحلة الرسوخ الديمقراطي. فمرحلة الانتقال تتسم بارتفاع سقف التوقعات وتزايد الاحتجاجات من قبل شرائح واسعة من الناس مع تخلخل قواعد النظام السابق، ما يجعل إدارة هذه المرحلة أكثر صعوبة إذا لم تتوافر رؤية واضحة وخارطة طريق وصفقات سياسية مؤقتة بين القوى المختلفة لضمان العبور الآمن. وفي غياب هذه الإدارة الذكية، تتولد أوهام كبرى حول الديمقراطية سرعان ما تصطدم بالواقع، وهو ما تسميه أدبيات سياسية بـ»نزع السحر عن الديمقراطية».
تأتي هذه النتائج في العالم العربي متزامنة، وللمفارقة، مع موجة احتجاجات شبابية آسيوية تعيد إلى الأذهان بدايات الربيع العربي. ففي نيبال تمكن جيل الشباب من إسقاط الحكومة عبر احتجاجات واسعة وصدامات مع أجهزة الدولة، انتهت إلى اختيار رئيسة وزراء للمرة الأولى في تاريخ العالم عبر تصويت إلكتروني (قام به الشباب بصورة عشوائية على إحدى المنصات ثم أصبح بعد ذلك هو الاسم المرشّح المطروح كبديل للحكومة السابقة).
قبل ذلك شهدت بنغلادش احتجاجات طلابية حاشدة، وفي سريلانكا أطاحت التظاهرات الشعبية بالحكومة. وكأننا أمام ربيع آسيوي جديد، وإن كان في دول ذات تقاليد ديمقراطية محدودة لكنها أوسع نسبياً مما هو قائم في العالم العربي. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل سينتهي هذا الربيع الآسيوي إلى الخيبة والانكفاء على السلطوية كما حدث في العالم العربي، أم أن الجيل الجديد في تلك الدول سيكون قادراً على التعلم من التجربة العربية، وبناء ديناميكيات أكثر رشداً لإرساء أنظمة ديمقراطية تعددية أقل فساداً وأكثر استجابة لمطالب الناس؟
هل انتهى أو تبخّر الحلم العربي بالديمقراطية؟! حتى على صعيد الحلم والطموح؛ وهو ما نجد صداه في نتائج النسخة الحالية من الباروميتر مقارنةً بما كانت عليه الحالة في ذروة الربيع العربي؟!.. الجواب: لا، ففي المحصلة الرأي العام العربي هو انعكاس موضو عي للشروط الواقعية واللحظات التي تمرّ بها المجتمعات وما تخلقه الأحداث من انطباعات ونتائج، إلاّ أنّ ذلك لا يعني بالضرورة نجاحاً أو تفوقاً للسياسات السلطوية أو شبه السلطوية؛ لأنّها هي الأخرى فشلت بل تزداد فشلاً، داخلياً وخارجياً، ولم تنجح في تقديم حلول للأزمات الكبيرة للمجتمعات العربية وهي القصة التي قادت إلى الاحتجاجات الشعبية المؤسسة للحظة الربيع العربي.
صحيح أنّ الديمقراطية الليبرالية لا تزال تحظى بثقة الغالبية، إلا أنّ المقارنة مع نتائج الباروميتر نفسه قبل عقد من الزمن (2012-2014) تظهر تراجعاً واضحاً في القبول بها. ففي العراق تراجعت الثقة 34 نقطة، وفي تونس 28 نقطة، وفي لبنان 26 نقطة، وفي الأردن 15 نقطة. في المقابل ارتفع القبول بنظام حكم الرجل القوي في معظم هذه الدول، إذ صعدت شعبيته في العراق 38 نقطة، وفي تونس 27 نقطة، وفي المغرب 14 نقطة، وفي لبنان 12 نقطة، بينما ارتفعت في الأردن خمس نقاط فقط، لكن نسبته كانت أصلاً مرتفعة قبل عقد من الزمن.
هذا الميل لا يقتصر على خيار الرجل القوي، بل يمتد إلى ما يُعرف بالدكتاتورية العادلة، حيث تظهر الأرقام صعوداً لافتاً: في المغرب 26 نقطة، وفي الأردن 24 نقطة، وفي لبنان 20 نقطة. ويفسر روبنز هذا التحول بأن الناس باتوا يعرّفون الديمقراطية انطلاقاً من مخرجاتها لا من إجراءاتها، أي من قدرتها على تحسين حياتهم اليومية، عبر جودة الخدمات والفرص الاقتصادية والعدالة في توزيع الموارد. الديمقراطية بالنسبة لهم لم تعد قيمة قائمة بذاتها، بل وسيلة مشروطة بالنتائج، فيما أظهرت النتائج أنّ هنالك قبولاً ملحوظاً في كل من الأردن وموريتانيا لنظام حكم يقوم على الشريعة الإسلامية.
ورغم أن هذه النتائج قد تبدو صادمة، إلا أنها منطقية إذا ما قورنت بالواقع الراهن. فالدول التي شهدت «ثورات الربيع العربي» تعيش اليوم أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، وتراجعت فيها مستويات المعيشة والاستقرار. أمام هذا المشهد، أصبحت الأولويات الشعبية أكثر ميلاً إلى الاستقرار والأمن والاقتصاد، وأقل تعلقاً بالحرية والديمقراطية.
هنا يتضح الخطأ الكبير الذي وقع فيه سياسيون ومثقفون عرب من القوى الإصلاحية عندما لم يميزوا بين مرحلة الانتقال الديمقراطي، الحساسة والهشة، وبين مرحلة الرسوخ الديمقراطي. فمرحلة الانتقال تتسم بارتفاع سقف التوقعات وتزايد الاحتجاجات من قبل شرائح واسعة من الناس مع تخلخل قواعد النظام السابق، ما يجعل إدارة هذه المرحلة أكثر صعوبة إذا لم تتوافر رؤية واضحة وخارطة طريق وصفقات سياسية مؤقتة بين القوى المختلفة لضمان العبور الآمن. وفي غياب هذه الإدارة الذكية، تتولد أوهام كبرى حول الديمقراطية سرعان ما تصطدم بالواقع، وهو ما تسميه أدبيات سياسية بـ»نزع السحر عن الديمقراطية».
تأتي هذه النتائج في العالم العربي متزامنة، وللمفارقة، مع موجة احتجاجات شبابية آسيوية تعيد إلى الأذهان بدايات الربيع العربي. ففي نيبال تمكن جيل الشباب من إسقاط الحكومة عبر احتجاجات واسعة وصدامات مع أجهزة الدولة، انتهت إلى اختيار رئيسة وزراء للمرة الأولى في تاريخ العالم عبر تصويت إلكتروني (قام به الشباب بصورة عشوائية على إحدى المنصات ثم أصبح بعد ذلك هو الاسم المرشّح المطروح كبديل للحكومة السابقة).
قبل ذلك شهدت بنغلادش احتجاجات طلابية حاشدة، وفي سريلانكا أطاحت التظاهرات الشعبية بالحكومة. وكأننا أمام ربيع آسيوي جديد، وإن كان في دول ذات تقاليد ديمقراطية محدودة لكنها أوسع نسبياً مما هو قائم في العالم العربي. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل سينتهي هذا الربيع الآسيوي إلى الخيبة والانكفاء على السلطوية كما حدث في العالم العربي، أم أن الجيل الجديد في تلك الدول سيكون قادراً على التعلم من التجربة العربية، وبناء ديناميكيات أكثر رشداً لإرساء أنظمة ديمقراطية تعددية أقل فساداً وأكثر استجابة لمطالب الناس؟
هل انتهى أو تبخّر الحلم العربي بالديمقراطية؟! حتى على صعيد الحلم والطموح؛ وهو ما نجد صداه في نتائج النسخة الحالية من الباروميتر مقارنةً بما كانت عليه الحالة في ذروة الربيع العربي؟!.. الجواب: لا، ففي المحصلة الرأي العام العربي هو انعكاس موضو عي للشروط الواقعية واللحظات التي تمرّ بها المجتمعات وما تخلقه الأحداث من انطباعات ونتائج، إلاّ أنّ ذلك لا يعني بالضرورة نجاحاً أو تفوقاً للسياسات السلطوية أو شبه السلطوية؛ لأنّها هي الأخرى فشلت بل تزداد فشلاً، داخلياً وخارجياً، ولم تنجح في تقديم حلول للأزمات الكبيرة للمجتمعات العربية وهي القصة التي قادت إلى الاحتجاجات الشعبية المؤسسة للحظة الربيع العربي.
نيسان ـ نشر في 2025/09/29 الساعة 00:00