الإصغاء إلى الذات
نيسان ـ نشر في 2025/10/26 الساعة 00:00
في بعض الأحيان نرفع أصواتنا من غير أن نعرف على وجه الدقة لماذا نفعل. نهتف مع من حولنا، نلوّح بالشعارات ذاتها، نغضب للسبب نفسه، ونشعر بقوة تكاد تسكرنا. يبدو لي أن هذه قوة لا تأتي من داخلنا، بل من تضخم الأصوات التي تحاصرنا، ولهذا ستهمس في داخلنا أسئلة مقلقة: هل هذا صوتي؟ وهل تلك رغبتي حقا؟ أم أنني أتماهى مع الحشد كيلا أشعر بأنني خارج السياق؟
سيغموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، نبّه إلى ظاهرة الذوبان في الحشود. كتب عن الإنسان حين يُنتزع من فردانيته ليصبح جزءا من كتلة صاخبة. رأى كيف ينهار التمييز بين الذات والآخر داخل التجمع، فتتبدد الحدود، وتضعف الضمائر، ويتحول الفرد إلى كائن يستمد أخلاقه ومشاعره وقراراته من الجو العام، لا من وعيه الخاص.
لكن العالم تغيّر الآن. لم تعد الحشود تتجمّع في الساحات فقط. نحن اليوم نعيش داخل شبكات افتراضية تُنتج أشكالا جديدة من الاصطفاف. نمارس الانتماء من خلال الأزرار، والتفاعل عن طريق الإعجابات، والرفض عبر الحملات. نحن داخل تيار دائم، حتى ونحن وحدنا. فحتى العزلة قد تغدو شكلا من أشكال التفاعل مع جوقة رقمية تحيط بنا من كل جانب.
ومع ذلك، ليس التجمع شرا خالصا. في الحشد دفء، وفي الجماعة أمل بالتغيير. لست ضد الانتماء، بل ضد ذوبان الذات. ما أخشاه هو أن تتحول العلاقة بالآخرين إلى مرآة مشوشة نرى فيها فقط انعكاس من يراد لنا أن نكون، لا من نحن في جوهرنا.
فالهوية ليست قناعا نلبسه، ولا قرارا فرديا نعلنه في لحظة صدق. هي كيان هشّ يتكوّن من لغة، تجارب، علاقات، ومن خوف ورغبة وتأمل. والذات لا تُصنع في فراغ، بل تتشكل من خلال المحيط الثقافي والاجتماعي. فأن تكون ذاتا حقيقية لا يعني الانفصال عن الآخرين، بل أن تملك وعيا ناقدا لما تتبناه، وقدرة على تمييز ما يُفرض عليك، ومما يخرج منك صافيا.
فهل نملك الشجاعة كي نتوقف وسط الزحام ونصغي إلى ذواتنا؟ أن نطرح الأسئلة التي نؤجلها؟ أن نعيد النظر في المواقف التي نتماهى معها؟ هل ما نقوله نابع منا، أم أنه مجرد صدى؟ هل ما نشعر به فعلي، أم مطلوب حتى لا نُستثنى من المشهد؟
ربما تكون لحظة الصمت، في زمن يعج بالصخب، أقوى أشكال المقاومة. وربما يكون إنقاذ الأنا، وسط الحشود، هو بداية استعادة إنسانيتنا.
سيغموند فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، نبّه إلى ظاهرة الذوبان في الحشود. كتب عن الإنسان حين يُنتزع من فردانيته ليصبح جزءا من كتلة صاخبة. رأى كيف ينهار التمييز بين الذات والآخر داخل التجمع، فتتبدد الحدود، وتضعف الضمائر، ويتحول الفرد إلى كائن يستمد أخلاقه ومشاعره وقراراته من الجو العام، لا من وعيه الخاص.
لكن العالم تغيّر الآن. لم تعد الحشود تتجمّع في الساحات فقط. نحن اليوم نعيش داخل شبكات افتراضية تُنتج أشكالا جديدة من الاصطفاف. نمارس الانتماء من خلال الأزرار، والتفاعل عن طريق الإعجابات، والرفض عبر الحملات. نحن داخل تيار دائم، حتى ونحن وحدنا. فحتى العزلة قد تغدو شكلا من أشكال التفاعل مع جوقة رقمية تحيط بنا من كل جانب.
ومع ذلك، ليس التجمع شرا خالصا. في الحشد دفء، وفي الجماعة أمل بالتغيير. لست ضد الانتماء، بل ضد ذوبان الذات. ما أخشاه هو أن تتحول العلاقة بالآخرين إلى مرآة مشوشة نرى فيها فقط انعكاس من يراد لنا أن نكون، لا من نحن في جوهرنا.
فالهوية ليست قناعا نلبسه، ولا قرارا فرديا نعلنه في لحظة صدق. هي كيان هشّ يتكوّن من لغة، تجارب، علاقات، ومن خوف ورغبة وتأمل. والذات لا تُصنع في فراغ، بل تتشكل من خلال المحيط الثقافي والاجتماعي. فأن تكون ذاتا حقيقية لا يعني الانفصال عن الآخرين، بل أن تملك وعيا ناقدا لما تتبناه، وقدرة على تمييز ما يُفرض عليك، ومما يخرج منك صافيا.
فهل نملك الشجاعة كي نتوقف وسط الزحام ونصغي إلى ذواتنا؟ أن نطرح الأسئلة التي نؤجلها؟ أن نعيد النظر في المواقف التي نتماهى معها؟ هل ما نقوله نابع منا، أم أنه مجرد صدى؟ هل ما نشعر به فعلي، أم مطلوب حتى لا نُستثنى من المشهد؟
ربما تكون لحظة الصمت، في زمن يعج بالصخب، أقوى أشكال المقاومة. وربما يكون إنقاذ الأنا، وسط الحشود، هو بداية استعادة إنسانيتنا.
نيسان ـ نشر في 2025/10/26 الساعة 00:00