من التوظيف الاستهلاكي إلى توظيف الإنتاج والقيمة الحقيقية

د. معن نصر العليان
نيسان ـ نشر في 2025/10/27 الساعة 00:00
من التوظيف الاستهلاكي إلى توظيف الإنتاج والقيمة الحقيقية

في مشهدٍ امتدّ لسنوات، راح الجهاز الحكومي يتحمّل ثقل وظائفٍ لم تُخلقْ لخلق قيمة، بل لامتصاص غضبٍ اجتماعيٍّ ومطالب عابرة؛ فتحوّل الموظف من محرّكٍإ للاقتصاد إلى عبءٍ يبكي الخزينة. هذه السياسة أشبه بزرعِ شجرةٍ لا تؤتي ثمارًا، لكنها تستهلك الماء والتربة والظلّ من الأرض التي كان يمكن أن تُزرع بمحاصيلٍ تنتج وتصنع وتصدّر.
النتيجة ليست مجرد أرقامٍ في دفاتر الرواتب أو أرقامٌ متصاعدة في بند التقاعد؛ بل هي قصّة اختناقٍ للاقتصاد الوطني. رواتبٌ فلكية ومراكزٌ زائدة لا تقابلها إنتاجية أو أداء؛ فتتحوّل الموارد إلى إنفاقٍ يربك موازنات الدولة ويزيد من المديونية، في الوقت الذي كان يفترض أن تُوظف فيه هذه الموارد لتحفيز المشاريع الصغيرة، تحديث البنية التحتية، ورفع جودة الخدمات العامة.
الدولة مسؤوليتها الحقيقية تفوق كونها صاحب عملٍ أكبر؛ إنها الضامن للأمن والاستقرار — وهو موجود والحمد لله — والحَكَم المنصف بين الشركاء الاقتصاديين. عليها أن تكون مراقبًا صارمًا لمخرجات التعليم، لأنّ المدرسة والجامعة هما حقلان لبناء كفاءاتٍ قادرة على المنافسة، لا مجرد مخرجات للشهادات تُودَع في أدراج البطالة. كما عليها أن تؤمّن بيئةً تشجّع القطاع الخاص، فلا يكون دورها إطفاءً لمطالب موظفين عبر توظيفٍ مفرط، بل داعمًا لروّاد الأعمال وميسّراً للتمويل والتشريعات.
أما القطاع الخاص، فهو الشريان الذي ينبض بالحياة الاقتصادية؛ لا بوسع الدولة أن تظل ربَّ العمل الدائم دون عقلنةٍ أو رؤية. المطلوب هو شراكةٌ استراتيجية: دولة تضبط وتُنظّم وتمنع تغوّل المصارف على ريادة الأعمال، ومصرفٌ لا يكون حاجزًا أمام تدفق رأس المال إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة، بل شريكًا في المخاطرة بحكمة. فحين يتسلّل البنوك إلى مواقع الريادة بلا ضوابط، تُخنق السيولة ويضيع الأمل على أبواب المشاريع الواعدة.
عشرات الآلاف من فرص العمل تلاشت أمام أعيننا، ومشاريعٌ أُغلِقَتْ لأسبابٍ بسيطة يمكن تداركها — نقص سيولة هنا، تأخّر دفعة هناك — لو وُضعت آليات حمايةٍ ذكية وداعمة للمؤسسات الناشئة. ما ضاع ليس أرقامًا فحسب، بل طاقات شبابية وطموحاتٍ قادرة على تحويل الخسارة إلى قيمة مضافة لو نال أصحابها فرصةً واستثمارًا مُنصفًا.
لا يزال الأمل قائمًا؛ لكنّه يتطلّب قرارًا شجاعًا وسياسةً رصينة. إعادة هيكلة الجهاز العام ليست مطاردةً للأرقام أو تقليصًا شكليًا، بل تحويل الموارد من استهلاكٍ إلى إنتاج؛ من وظيفةٍ وهمية إلى فرصةٍ حقيقية. البدء يكون بإصلاحاتٍ جذرية: مراجعة هياكل التوظيف، تشجيع المستثمرين المحليين والأجانب عبر بيئةٍ تشريعية واضحة، وإنشاء صناديق دعم مرنة تحفظ سيولة المشاريع الصغيرة وتمنع انطفاء أنوارها.
الخيار أمامنا واضح: إمّا استمرار التراكم على الجراح الاقتصادية، فثمارها ستكون مزيدًا من البطالة واصطفافًا أعمق مع ديونٍ أَصِيلة، أو اتخاذ مسارٍ جديدٍ تُعيد فيه الدولة دورها كحاضنةٍ ومنظّمٍ وداعم، وتُمنح الحرية للقطاع الخاص كي يزهُر ويولّد فرص العمل ويقلّص الاعتماد على الرواتب العامة. الإصلاح ليس ترفًا أو شعارًا بل ضرورة حياةٍ اقتصادية، ومن لا يستعد اليوم لركوب موجة التحوّل فقد يَغرق غدًا في بحرٍ بلا شراع.
    نيسان ـ نشر في 2025/10/27 الساعة 00:00