الاستقرار السيبراني: من إدارة التهديد إلى هندسة الثقة
نيسان ـ نشر في 2025/11/13 الساعة 00:00
(1)
تتشابك الأكواد مع الخرائط، وتتقاطع الخوارزميات مع مسارات النفوذ، لترسم ملامح عالمٍ جديد تتداخل فيه التقنية بالسياسة، وتتماهى فيه البيانات مع السلطة. لم يعد الفضاء السيبراني امتدادًا للواقع فحسب، بل واقعًا موازياً تُدار في فضائه القرارات، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم القوة والسيادة والأمن. ففي زمنٍ تُقاس فيه الهيمنة بقدرة الخوارزميات على الرؤية والتحليل والتوجيه، يتراجع السلاح المادي أمام نفوذ الكود، ويغدو الأمن الرقمي معيارًا حاسمًا لاستقرار الدول ومكانتها في النظام الدولي الجديد.
عند هذه العتبة من التحوّل، يبرز الاستقرار السيبراني كأحد أكثر المفاهيم إشكالًا في الفكر السياسي المعاصر؛ فهو لا يعني غياب التهديدات، بل القدرة على إدارتها ضمن فضاءٍ متغيّرٍ بطبيعته، ولا يقوم على الردع وحده، بل على بناء الثقة كشرطٍ للأمن المشترك. إنّ الانتقال من إدارة التهديد إلى هندسة الثقة يمثل جوهر المقاربة الجديدة للأمن في العصر الرقمي؛ مقاربة لا ترى في الفضاء السيبراني ميدانًا للصراع فقط، بل بنيةً حيوية لاستمرار العالم الحديث، تُعاد فيها صياغة مفاهيم النظام والاستقرار، كما تُعاد كتابة الأكواد التي تحكمه.
فمسألةُ بناءِ نظامٍ سيبرانيٍّ عالميٍّ مستقرٍّ ومتوافقٍ مع بنى النظام الدولي الراهن تُعَدّ إحدى أكثر القضايا إلحاحًا على جدول أعمال المجتمع الدولي في المرحلة المعاصرة. فالتطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية، واتساع الفضاء السيبراني ليغدو البنية التحتية الخفيّة لكلّ أنشطة الاقتصاد والسياسة والأمن والمعرفة، جعلا منه ميدانًا تتقاطع فيه مصالح الدول وتتشابك فيه حدود السيادة على نحوٍ غير مسبوق. وقد أفرز هذا التشابك المتنامي تحدّياتٍ عميقة تتعلق بكيفية إدارة الترابط العالمي وضبط مخاطره، في بيئةٍ رقمية تتغيّر سرعتها أسرع من قدرة الأنظمة السياسية والقانونية على التكيّف معها.
بناءً على هذه المعطيات التي تُظهر أن الاقتصاد الرقمي بات يُشكّل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، غدا الاستقرار السيبراني مسألةً مركزية لا تُختزل في بعدها الأمني، بل تمثّل شرطًا أساسيًا لاستدامة النمو الاقتصادي والتطور التقني للدول. فهو اليوم لا يقلّ أهمية عن الاستقرار النووي أو المالي، إذ يحدّد مدى قدرة الدول على حماية بناها التحتية الحيوية، وصون مؤسساتها السياسية والديمقراطية، وضمان أمنها الاقتصادي والاجتماعي في عالمٍ تراجعت فيه فاعلية القوة الصلبة التقليدية، لتحلّ محلّها أشكالٌ جديدة من النفوذ القائم على السيطرة على البيانات، والبنى التحتية الرقمية، وتدفّقات المعلومات العابرة للحدود.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، تحوّل الإنترنت من مشروعٍ أكاديمي محدود إلى نظامٍ عصبيٍّ كونيّ يغذّي أكثر من 5.35 مليار إنسان ويربط ما يزيد على 75% من سكان الكوكب، فاتحًا الباب أمام مكاسب غير مسبوقة للبشرية في مجالات التواصل والإنتاج والمعرفة. ومع توسّع الاقتصاد الرقمي ليشكّل أكثر من 15% من الناتج العالمي، أصبحت الشبكات الرقمية عصب الحياة الحديثة ومحرّكها الخفي. غير أن هذا الترابط نفسه أوجد هشاشةً جديدة؛ إذ باتت الأنظمة الوطنية متشابكة على نحوٍ يجعل من أيّ خللٍ في شبكةٍ محلية تهديدًا محتملًا للنظام العالمي بأسره. وتشير التقارير إلى أن عدد الهجمات السيبرانية ارتفع بنسبةٍ تفوق 28% في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بمتوسطٍ بلغ 1250 هجومًا أسبوعيًا على كل مؤسسة حول العالم، فيما تجاوزت الخسائر الاقتصادية العالمية عشرة تريليونات دولار سنويًا بحلول عام 2025. ومع هذا التصاعد، برزت المعضلة الكبرى: كيف يمكن الحفاظ على استقرار عالمٍ تحكمه الأكواد بدلًا من الحدود، وتُدار فيه القوة بالمعلومة لا بالسلاح؟
تأسيسا على ذلك، أصبحت الحوكمة السيبرانية الدولية أحد الميادين البحثية الصاعدة في العلاقات الدولية، لأنها تمسّ جوهر مفهوم السيادة ذاته. فالفضاء السيبراني لا يعترف بالحدود الجغرافية، لكنه يتغلغل في مؤسسات الدولة وقطاعاتها الحيوية بعمقٍ غير مسبوق. هذا التناقض بين الطابع الكوني للبنية الرقمية والطابع القومي للسيادة السياسية جعل من الفضاء السيبراني ساحة تنافس بين القوى الكبرى على تحديد قواعد اللعبة الجديدة. فبينما تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى فرض نموذج الانفتاح والحرية الرقمية الذي يكرّس هيمنة الشركات العملاقة في وادي السيليكون، تدفع الصين وروسيا باتجاه نموذج السيادة الرقمية الذي يضمن للدولة السيطرة على تدفقات المعلومات وحماية الفضاء الوطني من التأثير الخارجي. وهكذا، لم يعد الصراع حول التكنولوجيا صراعًا تقنيًا فحسب، بل صراعًا على تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والأمن في العصر الرقمي.
ورغم أنّ العالم لم يشهد بعد حربًا سيبرانية شاملة بالمعنى الكلاسيكي للنزاعات بين الدول، فإنّ المشهد الدولي يعجّ بمواجهات رقمية متقطعة ومتخفية تمثّل ما يمكن وصفه بـ «حالة ما قبل الحرب» في الفضاء السيبراني. فاستهداف البنى التحتية الحيوية كأنظمة الطاقة والمياه والمطارات والمستشفيات وهي قطاعات باتت تمثل أكثر من 80% من أهداف الهجمات السيبرانية المدعومة من دول وفق تقارير أمنية حديثة، ما يكشف هشاشة النظام الرقمي العالمي واتساع نطاق التهديد ومستوى عالٍ من الهشاشة وعن انزلاق تدريجي نحو صراعٍ غير معلن، تُدار معاركه في الخفاء وتُقاس خسائره بالشلل لا بالدماء. ولعلّ ما يفسّر هذا الحذر أن القوى الكبرى تدرك الطبيعة الانعكاسية للهجمات السيبرانية، إذ قد تتحول بسهولة إلى سلاحٍ مرتدّ في نظامٍ عالمي شديد الترابط، حيث لا يمكن التنبؤ بسلسلة التأثيرات المتبادلة. ورغم أن بعض الباحثين يرفضون توصيف هذه المواجهات بالحرب، باعتبار أن الصراع السيبراني لا ينفصل عن منظومةٍ أوسع من الحروب الهجينة التي تمزج بين الأدوات العسكرية والمعلوماتية والدبلوماسية، فإنّ المؤكد أنّ الفضاء السيبراني أصبح اليوم أحد أهم ميادين الردع والتصعيد الاستراتيجي، وأن أيّ إخلال باستقراره قد يشعل شرارة اضطرابٍ عالمي يتجاوز حدوده الرقمية إلى البنية العميقة للنظام الدولي.
من هنا برزت جهود فكرية وسياسية لصوغ قواعد تضبط السلوك الدولي في الفضاء السيبراني. ومن أبرزها المبادئ التي وضعها جوزيف ناي بالتعاون مع اللجنة العالمية لاستقرار الفضاء السيبراني، والتي اقترحت ثمانية معايير تمثل خطوطًا أخلاقية حمراء لتجنّب الانزلاق نحو الفوضى الرقمية. تدعو هذه المعايير إلى عدم المساس بالبنى التحتية الأساسية للإنترنت، وحماية العمليات الانتخابية من التدخل الخارجي، ومنع استخدام الشبكات الآلية لأغراض هجومية، وتشجيع الشفافية في الكشف عن الثغرات التقنية، وإرساء ثقافة «الصحة الإلكترونية العامة» التي تحاكي فكرة الوقاية في المجال الصحي. غير أن هذه المبادئ ما تزال ذات طابع طوعي وغير ملزم، الأمر الذي يجعل تطبيقها رهينًا بإرادة الدول وموازين القوى، لا بآليات القانون الدولي الصارمة.
(2)
على الرغم من تعدد المبادرات الثنائية والمتعددة الأطراف من جهود مجموعة العشرين في إدراج أمن البنية التحتية الرقمية ضمن جدول أعمالها الاقتصادي، إلى مبادرات منظمة شنغهاي للتعاون التي سعت إلى صياغة مدوّنة سلوك سيبرانية آسيوية قائمة على مبدأ السيادة الرقمية، وبرامج منظمة آسيان لتعزيز الثقة وتبادل المعلومات في جنوب شرق آسيا، وصولًا إلى الاستراتيجية السيبرانية لمنظمة الدول الأميركية (OAS) التي ركّزت منذ عام 2004 على بناء القدرات الوطنية للدول الأعضاء وتطوير أطرٍ إقليميةٍ للوقاية والاستجابة فإنّ العالم لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى اتفاق دولي شامل وملزم يُنظّم قواعد السلوك في الفضاء السيبراني.
فمبادرات منظمة الدول الأميركية، رغم أهميتها الريادية، ظلت أقرب إلى إطارٍ تنسيقي يعتمد على التدريب والمساعدة التقنية وتبادل الخبرات، دون أن تُشكّل منظومةً قانونية موحّدة تفرض التزامات على الدول الأعضاء. وينسحب الأمر ذاته على بقية المبادرات الإقليمية التي تبنّت مقاربة «الإرشاد الطوعي» بدلًا من الالتزام القانوني الصارم.
هذا القصور يُعزى إلى الطبيعة المزدوجة للفضاء السيبراني، الذي يجمع بين كونه موردًا عالميًا مشتركًا ومجالًا سياديًا وطنيًا في آنٍ واحد. فالدول تتعامل معه كامتدادٍ لأمنها القومي ومجالٍ استراتيجي لا تقبل التنازل فيه، ما يجعل التوافق على قواعد ملزمة أمرًا بالغ الصعوبة. كما أن الخلاف بين القوى الكبرى حول تفسير القانون الدولي بين من يرى أن ميثاق الأمم المتحدة كافٍ لتغطية الهجمات السيبرانية باعتبارها «استخدامًا للقوة»، ومن يطالب بإبرام معاهدة سيبرانية جديدة يعمّق الانقسام ويؤخّر نشوء نظام حوكمة فعّال.
نتيجة لذلك، يظلّ التعاون الدولي في المجال السيبراني محدودًا ومحكومًا بالمصالح القومية الضيقة، ومشدودًا بين مطلب الدفاع المشروع عن النفس من جهة، وضرورة حماية المجال الإنساني من الانزلاق إلى سباق تسلّح رقمي من جهة أخرى. وهكذا يستمر الفضاء السيبراني، في غياب إطار قانوني جامع، بوصفه منطقة رمادية تُمارَس فيها القوة أكثر مما تُنظَّم، ويتحدّد فيها السلوك الدولي بميزان الردع لا بمنظومة القواعد.
بهذا المعنى، تتجلّى فكرة «المسؤولية المشتركة» في الفضاء السيبراني باعتبارها الأساس لأي نظام مستقر. فالأمن الرقمي لم يعد شأنًا داخليًا، بل مسؤولية جماعية تتطلب من جميع الفاعلين، سواء كانوا دولًا أو شركات أو منظمات مدنية، أن ينخرطوا في منظومة تضامن جديدة قوامها الشفافية والتعاون والردع الوقائي. ومع ذلك، لا يزال ما يُسمّى «السلام السيبراني» في طوره البدائي، إذ يقتصر غالبًا على الامتناع المتبادل عن الهجوم أو ما يمكن تسميته «السلام السلبي»، بينما يغيب عنه البعد الإيجابي القائم على بناء الثقة، وتبادل المعلومات، وتطوير قدرات الاستجابة الجماعية.
خلاصة القول: إنّ بناء نظامٍ سيبراني مستقرٍّ لا يتحقق بسباق التسلّح الرقمي أو بتراكم أدوات الردع، بل بترسيخ وعيٍ جماعيٍّ يُدرك أن الأمن في الفضاء السيبراني مسؤوليةٌ مشتركة تتجاوز حدود الدولة والمصلحة الضيّقة. فانتقال العالم من السلام السيبراني السلبي إلى السلام الإيجابي يقتضي إعادة تعريف القوة بوصفها التزامًا أخلاقيًا بالتعاون والثقة، لا تفوقًا في السيطرة والهجوم. وحين تُصبح الثقة الرقمية جزءًا من منظومة القيم الدولية، يمكن عندها فقط الحديث عن نظامٍ سيبرانيٍّ عالميٍّ مستدام، يؤمّن استقرار العولمة ويصون إنسانيتها.
تتشابك الأكواد مع الخرائط، وتتقاطع الخوارزميات مع مسارات النفوذ، لترسم ملامح عالمٍ جديد تتداخل فيه التقنية بالسياسة، وتتماهى فيه البيانات مع السلطة. لم يعد الفضاء السيبراني امتدادًا للواقع فحسب، بل واقعًا موازياً تُدار في فضائه القرارات، وتُعاد فيه صياغة مفاهيم القوة والسيادة والأمن. ففي زمنٍ تُقاس فيه الهيمنة بقدرة الخوارزميات على الرؤية والتحليل والتوجيه، يتراجع السلاح المادي أمام نفوذ الكود، ويغدو الأمن الرقمي معيارًا حاسمًا لاستقرار الدول ومكانتها في النظام الدولي الجديد.
عند هذه العتبة من التحوّل، يبرز الاستقرار السيبراني كأحد أكثر المفاهيم إشكالًا في الفكر السياسي المعاصر؛ فهو لا يعني غياب التهديدات، بل القدرة على إدارتها ضمن فضاءٍ متغيّرٍ بطبيعته، ولا يقوم على الردع وحده، بل على بناء الثقة كشرطٍ للأمن المشترك. إنّ الانتقال من إدارة التهديد إلى هندسة الثقة يمثل جوهر المقاربة الجديدة للأمن في العصر الرقمي؛ مقاربة لا ترى في الفضاء السيبراني ميدانًا للصراع فقط، بل بنيةً حيوية لاستمرار العالم الحديث، تُعاد فيها صياغة مفاهيم النظام والاستقرار، كما تُعاد كتابة الأكواد التي تحكمه.
فمسألةُ بناءِ نظامٍ سيبرانيٍّ عالميٍّ مستقرٍّ ومتوافقٍ مع بنى النظام الدولي الراهن تُعَدّ إحدى أكثر القضايا إلحاحًا على جدول أعمال المجتمع الدولي في المرحلة المعاصرة. فالتطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية، واتساع الفضاء السيبراني ليغدو البنية التحتية الخفيّة لكلّ أنشطة الاقتصاد والسياسة والأمن والمعرفة، جعلا منه ميدانًا تتقاطع فيه مصالح الدول وتتشابك فيه حدود السيادة على نحوٍ غير مسبوق. وقد أفرز هذا التشابك المتنامي تحدّياتٍ عميقة تتعلق بكيفية إدارة الترابط العالمي وضبط مخاطره، في بيئةٍ رقمية تتغيّر سرعتها أسرع من قدرة الأنظمة السياسية والقانونية على التكيّف معها.
بناءً على هذه المعطيات التي تُظهر أن الاقتصاد الرقمي بات يُشكّل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، غدا الاستقرار السيبراني مسألةً مركزية لا تُختزل في بعدها الأمني، بل تمثّل شرطًا أساسيًا لاستدامة النمو الاقتصادي والتطور التقني للدول. فهو اليوم لا يقلّ أهمية عن الاستقرار النووي أو المالي، إذ يحدّد مدى قدرة الدول على حماية بناها التحتية الحيوية، وصون مؤسساتها السياسية والديمقراطية، وضمان أمنها الاقتصادي والاجتماعي في عالمٍ تراجعت فيه فاعلية القوة الصلبة التقليدية، لتحلّ محلّها أشكالٌ جديدة من النفوذ القائم على السيطرة على البيانات، والبنى التحتية الرقمية، وتدفّقات المعلومات العابرة للحدود.
على مدى العقود الثلاثة الماضية، تحوّل الإنترنت من مشروعٍ أكاديمي محدود إلى نظامٍ عصبيٍّ كونيّ يغذّي أكثر من 5.35 مليار إنسان ويربط ما يزيد على 75% من سكان الكوكب، فاتحًا الباب أمام مكاسب غير مسبوقة للبشرية في مجالات التواصل والإنتاج والمعرفة. ومع توسّع الاقتصاد الرقمي ليشكّل أكثر من 15% من الناتج العالمي، أصبحت الشبكات الرقمية عصب الحياة الحديثة ومحرّكها الخفي. غير أن هذا الترابط نفسه أوجد هشاشةً جديدة؛ إذ باتت الأنظمة الوطنية متشابكة على نحوٍ يجعل من أيّ خللٍ في شبكةٍ محلية تهديدًا محتملًا للنظام العالمي بأسره. وتشير التقارير إلى أن عدد الهجمات السيبرانية ارتفع بنسبةٍ تفوق 28% في عام 2024 مقارنة بالعام السابق، بمتوسطٍ بلغ 1250 هجومًا أسبوعيًا على كل مؤسسة حول العالم، فيما تجاوزت الخسائر الاقتصادية العالمية عشرة تريليونات دولار سنويًا بحلول عام 2025. ومع هذا التصاعد، برزت المعضلة الكبرى: كيف يمكن الحفاظ على استقرار عالمٍ تحكمه الأكواد بدلًا من الحدود، وتُدار فيه القوة بالمعلومة لا بالسلاح؟
تأسيسا على ذلك، أصبحت الحوكمة السيبرانية الدولية أحد الميادين البحثية الصاعدة في العلاقات الدولية، لأنها تمسّ جوهر مفهوم السيادة ذاته. فالفضاء السيبراني لا يعترف بالحدود الجغرافية، لكنه يتغلغل في مؤسسات الدولة وقطاعاتها الحيوية بعمقٍ غير مسبوق. هذا التناقض بين الطابع الكوني للبنية الرقمية والطابع القومي للسيادة السياسية جعل من الفضاء السيبراني ساحة تنافس بين القوى الكبرى على تحديد قواعد اللعبة الجديدة. فبينما تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى فرض نموذج الانفتاح والحرية الرقمية الذي يكرّس هيمنة الشركات العملاقة في وادي السيليكون، تدفع الصين وروسيا باتجاه نموذج السيادة الرقمية الذي يضمن للدولة السيطرة على تدفقات المعلومات وحماية الفضاء الوطني من التأثير الخارجي. وهكذا، لم يعد الصراع حول التكنولوجيا صراعًا تقنيًا فحسب، بل صراعًا على تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والأمن في العصر الرقمي.
ورغم أنّ العالم لم يشهد بعد حربًا سيبرانية شاملة بالمعنى الكلاسيكي للنزاعات بين الدول، فإنّ المشهد الدولي يعجّ بمواجهات رقمية متقطعة ومتخفية تمثّل ما يمكن وصفه بـ «حالة ما قبل الحرب» في الفضاء السيبراني. فاستهداف البنى التحتية الحيوية كأنظمة الطاقة والمياه والمطارات والمستشفيات وهي قطاعات باتت تمثل أكثر من 80% من أهداف الهجمات السيبرانية المدعومة من دول وفق تقارير أمنية حديثة، ما يكشف هشاشة النظام الرقمي العالمي واتساع نطاق التهديد ومستوى عالٍ من الهشاشة وعن انزلاق تدريجي نحو صراعٍ غير معلن، تُدار معاركه في الخفاء وتُقاس خسائره بالشلل لا بالدماء. ولعلّ ما يفسّر هذا الحذر أن القوى الكبرى تدرك الطبيعة الانعكاسية للهجمات السيبرانية، إذ قد تتحول بسهولة إلى سلاحٍ مرتدّ في نظامٍ عالمي شديد الترابط، حيث لا يمكن التنبؤ بسلسلة التأثيرات المتبادلة. ورغم أن بعض الباحثين يرفضون توصيف هذه المواجهات بالحرب، باعتبار أن الصراع السيبراني لا ينفصل عن منظومةٍ أوسع من الحروب الهجينة التي تمزج بين الأدوات العسكرية والمعلوماتية والدبلوماسية، فإنّ المؤكد أنّ الفضاء السيبراني أصبح اليوم أحد أهم ميادين الردع والتصعيد الاستراتيجي، وأن أيّ إخلال باستقراره قد يشعل شرارة اضطرابٍ عالمي يتجاوز حدوده الرقمية إلى البنية العميقة للنظام الدولي.
من هنا برزت جهود فكرية وسياسية لصوغ قواعد تضبط السلوك الدولي في الفضاء السيبراني. ومن أبرزها المبادئ التي وضعها جوزيف ناي بالتعاون مع اللجنة العالمية لاستقرار الفضاء السيبراني، والتي اقترحت ثمانية معايير تمثل خطوطًا أخلاقية حمراء لتجنّب الانزلاق نحو الفوضى الرقمية. تدعو هذه المعايير إلى عدم المساس بالبنى التحتية الأساسية للإنترنت، وحماية العمليات الانتخابية من التدخل الخارجي، ومنع استخدام الشبكات الآلية لأغراض هجومية، وتشجيع الشفافية في الكشف عن الثغرات التقنية، وإرساء ثقافة «الصحة الإلكترونية العامة» التي تحاكي فكرة الوقاية في المجال الصحي. غير أن هذه المبادئ ما تزال ذات طابع طوعي وغير ملزم، الأمر الذي يجعل تطبيقها رهينًا بإرادة الدول وموازين القوى، لا بآليات القانون الدولي الصارمة.
(2)
على الرغم من تعدد المبادرات الثنائية والمتعددة الأطراف من جهود مجموعة العشرين في إدراج أمن البنية التحتية الرقمية ضمن جدول أعمالها الاقتصادي، إلى مبادرات منظمة شنغهاي للتعاون التي سعت إلى صياغة مدوّنة سلوك سيبرانية آسيوية قائمة على مبدأ السيادة الرقمية، وبرامج منظمة آسيان لتعزيز الثقة وتبادل المعلومات في جنوب شرق آسيا، وصولًا إلى الاستراتيجية السيبرانية لمنظمة الدول الأميركية (OAS) التي ركّزت منذ عام 2004 على بناء القدرات الوطنية للدول الأعضاء وتطوير أطرٍ إقليميةٍ للوقاية والاستجابة فإنّ العالم لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى اتفاق دولي شامل وملزم يُنظّم قواعد السلوك في الفضاء السيبراني.
فمبادرات منظمة الدول الأميركية، رغم أهميتها الريادية، ظلت أقرب إلى إطارٍ تنسيقي يعتمد على التدريب والمساعدة التقنية وتبادل الخبرات، دون أن تُشكّل منظومةً قانونية موحّدة تفرض التزامات على الدول الأعضاء. وينسحب الأمر ذاته على بقية المبادرات الإقليمية التي تبنّت مقاربة «الإرشاد الطوعي» بدلًا من الالتزام القانوني الصارم.
هذا القصور يُعزى إلى الطبيعة المزدوجة للفضاء السيبراني، الذي يجمع بين كونه موردًا عالميًا مشتركًا ومجالًا سياديًا وطنيًا في آنٍ واحد. فالدول تتعامل معه كامتدادٍ لأمنها القومي ومجالٍ استراتيجي لا تقبل التنازل فيه، ما يجعل التوافق على قواعد ملزمة أمرًا بالغ الصعوبة. كما أن الخلاف بين القوى الكبرى حول تفسير القانون الدولي بين من يرى أن ميثاق الأمم المتحدة كافٍ لتغطية الهجمات السيبرانية باعتبارها «استخدامًا للقوة»، ومن يطالب بإبرام معاهدة سيبرانية جديدة يعمّق الانقسام ويؤخّر نشوء نظام حوكمة فعّال.
نتيجة لذلك، يظلّ التعاون الدولي في المجال السيبراني محدودًا ومحكومًا بالمصالح القومية الضيقة، ومشدودًا بين مطلب الدفاع المشروع عن النفس من جهة، وضرورة حماية المجال الإنساني من الانزلاق إلى سباق تسلّح رقمي من جهة أخرى. وهكذا يستمر الفضاء السيبراني، في غياب إطار قانوني جامع، بوصفه منطقة رمادية تُمارَس فيها القوة أكثر مما تُنظَّم، ويتحدّد فيها السلوك الدولي بميزان الردع لا بمنظومة القواعد.
بهذا المعنى، تتجلّى فكرة «المسؤولية المشتركة» في الفضاء السيبراني باعتبارها الأساس لأي نظام مستقر. فالأمن الرقمي لم يعد شأنًا داخليًا، بل مسؤولية جماعية تتطلب من جميع الفاعلين، سواء كانوا دولًا أو شركات أو منظمات مدنية، أن ينخرطوا في منظومة تضامن جديدة قوامها الشفافية والتعاون والردع الوقائي. ومع ذلك، لا يزال ما يُسمّى «السلام السيبراني» في طوره البدائي، إذ يقتصر غالبًا على الامتناع المتبادل عن الهجوم أو ما يمكن تسميته «السلام السلبي»، بينما يغيب عنه البعد الإيجابي القائم على بناء الثقة، وتبادل المعلومات، وتطوير قدرات الاستجابة الجماعية.
خلاصة القول: إنّ بناء نظامٍ سيبراني مستقرٍّ لا يتحقق بسباق التسلّح الرقمي أو بتراكم أدوات الردع، بل بترسيخ وعيٍ جماعيٍّ يُدرك أن الأمن في الفضاء السيبراني مسؤوليةٌ مشتركة تتجاوز حدود الدولة والمصلحة الضيّقة. فانتقال العالم من السلام السيبراني السلبي إلى السلام الإيجابي يقتضي إعادة تعريف القوة بوصفها التزامًا أخلاقيًا بالتعاون والثقة، لا تفوقًا في السيطرة والهجوم. وحين تُصبح الثقة الرقمية جزءًا من منظومة القيم الدولية، يمكن عندها فقط الحديث عن نظامٍ سيبرانيٍّ عالميٍّ مستدام، يؤمّن استقرار العولمة ويصون إنسانيتها.
نيسان ـ نشر في 2025/11/13 الساعة 00:00