القتل متعة سياحية

رمزي الغزوي
نيسان ـ نشر في 2025/11/18 الساعة 00:00
ثمة لحظات تنهض أمامنا كمرآة قاسية، تكشف ما لا نحب أن نراه في أنفسنا، وتقول إن الشر لا يحتاج إلى دبابة ليدوس، ولا إلى قائد مهوس ليأمر، بل لربما يتجسد في رجل أنيق بساعة لامعة، يصعد تلة مطلة على مدينة محاصرة، ثم يضع عينه خلف منظار بندقية قنص، ويجرب لذة الرصاصة الأولى. لذة يشتريها كما يشتري تذكرة سفر. تلك كانت سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك حين سقط آخر قناع، وظهر وجه الإنسان على حقيقته.
عندما نعود إلى أرشيف حصار تلك المدينة بين عامي 1992-1996، لا نعود فقط إلى حرب شرسة، بل إلى اختبار أخلاقي فقد العالم فيه أسمى معانيه. فالقصف يمكن فهمه ضمن جنون الجيوش، والقتال يمكن تفسيره كتفاصيل حرب طويلة. لكن ما لا يمكن فهمه هو أن يأتي سائح ثري من روما أو باريس أو برلين، ليطلب من جندي صربي أن يمنحه فرصة اصطياد مدني محاصر يركض نحو خبزه. أن يدفع مالا كي يرى سقوط جسد لا يعرفه. أية هاوية تلك التي تمنحه المتعة؟
هذا ليس خيالا ولا مبالغة، بل شهادات ظهرت بعد عقود، رواها جنود، ووثقها فيلم، وقدمها صحافي إيطالي للنيابة العامة قبل أيام. سياح يلتقطون صورا بعد إصابة امرأة كانت تعبر شارعها. رجال يتجادلون حول سعر الرصاصة أو الرصاصتين. غرباء يختبرون شعورا بدائيا بالسلطة المطلقة، بينما المدينة تئن تحت أربع سنوات من الحصار الخانق. في زقاق القناصة، وفي الشوارع المحفوفة بالموت، كان العابرون يحاولون النجاة، بينما كان هؤلاء السياح البطرانين يختبرون درجات الإثارة في ضرب هدف جديد.
هنا ليس للشر تفسير سياسي. ولا عقدة دينية. الشر يبدو رغبة فارغة، أو قلبا جف حتى صار خفيفا مثل ورقة، يبحث عن صوت يسد خواءه، فيجد صدى الرصاصة جوابا. وهذا أخطر ما في القصة. فهي لا تكشف عن حرب، بل عن قابلية الإنسان للسقوط بلا سبب. عن استعداد بعض البشر للتخلي عن كل ما يجعلهم بشرا في مقابل لحظة نشوة عابرة.
وربما لهذا سميت اللامبالاة بالشر. اللامبالاة التي تجعل العالم يتجاوز المجازر كما يتجاوز إعلانا تجاريا. اللامبالاة التي تترك ضحايا سراييفو مجهولين، بينما يواصل القتلة حياتهم في مدن هادئة.
اليوم، حين نعيد قراءة هذه الحالة، لا نفكر فقط في العدالة لسراييفو بل لكل البقاع التي انتهكت فيها الرحمة وساد عليها الشر، ونفكر أكثر في معنى وجودنا كلنا ونسأل: ماذا يبقى من إنسانيتنا إذا صار الموت تجربة سياحية، والسقوط الأخلاقي صورة في ألبوم عطلة. وكيف سنواجه أنفسنا حين ندرك أن كل رصاصة تترك في إنسانيتنا شقا لا يلتئم.
    نيسان ـ نشر في 2025/11/18 الساعة 00:00