الخليج أمام لحظة الذكاء الاصطناعي: ماذا بعد موجة التبني الأولى؟

د. خالد وليد محمود
نيسان ـ نشر في 2025/11/30 الساعة 00:00
يشهد الخليج اليوم لحظة مفصلية في مسار الذكاء الاصطناعي، لحظة تتجاوز حدود التبنّي التقني إلى إعادة تشكيل منظومات القوة وممارسات الدولة. فمن الواضح أن دول مجلس التعاون لم تعد تنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة لتحسين الكفاءة الحكومية أو رفع جودة الخدمات، بل بات جزءًا من هندسة النفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتكشف رؤى 2020–2030 و2030–2040 عن هذا التحول بوضوح، إذ جرى تضمين الذكاء الاصطناعي ضمن الخطط الوطنية الكبرى، وتسخير موارده لتعزيز تنافسية الاقتصادات الخليجية واستقطاب الشركات العالمية وبناء المكانة الجيوسياسية. خطوات مؤسسية مثل إطلاق الإمارات لاستراتيجية AI 2031 وإنشاء وزارة للذكاء الاصطناعي، وتأسيس الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي، وتطوير قطر لمسارات الذكاء الاصطناعي ضمن رؤيتها الوطنية، ليست مجرد مبادرات تقنية، بل تعبير عن تحوّل الدولة الخليجية نحو نموذج «القوة الرقمية الشاملة». في هذا السياق، أصبح الذكاء الاصطناعي بمرتبة الطاقة والمال والبنية التحتية في تشكيل مستقبل المنطقة.
ومع توسع هذا التوجه، لم يعد صناع السياسات ينظرون إلى الذكاء الاصطناعي كأداة لتحسين الإنتاجية فحسب، بل كقوة دافعة لبناء قطاعات جديدة بالكامل من الرعاية الصحية واللوجستيات إلى التقنيات المالية وكفاءة الطاقة وهي القطاعات التي باتت تمثل أعمدة رئيسية في مسار تنويع الاقتصاد الخليجي. كما بات الذكاء الاصطناعي يتحوّل بسرعة من أدوات للتجربة إلى أنظمة تشغيل تعتمد عليها المؤسسات في عملها اليومي، وهو ما يتسق مع اتجاهات الاستثمار الإقليمي التي تشير إلى أن المرحلة المقبلة ستقوم على نماذج قادرة على اتخاذ قرارات وتنفيذ مهام، وأتمتة سير العمل بأكمله، وتوليد تنبؤات لحظية متعددة الأنماط، بل وتطوير «أفاتارات ذكية» تعيد تشكيل خدمات العملاء والتعليم والدعم الفني. هذا التحول نحو «ذكاء اصطناعي تشغيلي» يزيد من فرص التوسع الاقتصادي، لكنه يضاعف أيضًا حجم المخاطر المتولدة عن أي خلل أو ثغرة في المنظومات الرقمية.
غير أن هذا التسارع يكشف في المقابل فجوة بنيوية تزداد وضوحًا كلما توسّع الاعتماد على المنصات والخوارزميات، وهي الفجوة بين تنظيم الذكاء الاصطناعي وبين منظومات الأمن السيبراني. فعلى الرغم من بناء دول الخليج أطرًا متقدمة لحماية بنيتها التحتية الحيوية بحلول الأعوام المقبلة، بقيت منظومات تنظيم الذكاء الاصطناعي تُصاغ في مسارات منفصلة، وكأنها مجال معرفي وتقني مستقل لا يحتاج إلى ارتباط وثيق بالبنية الأمنية. هذه الازدواجية تخلق مساحة رمادية عالية المخاطر، لأن القطاعات الأكثر حساسية كالخدمات الحكومية والمالية والطاقة والنقل أصبحت تعتمد على نماذج خوارزمية تتخذ قرارات حقيقية تؤثر على حياة الناس وسير المؤسسات. وهنا لم تعد المسألة مرتبطة بحماية الشبكات فقط، بل بحماية «طبقة القرار» التي أصبحت تُبنى على البيانات والتحليل الآلي.
ضمن هذا التحول، تبرز ظاهرة «الاختراق العميق» بوصفها أحد أخطر التهديدات المستجدة. فهي لا تستهدف النظام الشبكي فقط، بل البنية المعرفية التي تُشغّل الدولة الحديثة: البيانات، والنماذج، ومسارات اتخاذ القرار. اختراق من هذا النوع قد يُحرّف نماذج التنبؤ الاقتصادي، أو يوجّه خوارزمية هوية رقمية نحو سلوك معين، أو يتلاعب بالتحذيرات الأمنية أو بقرارات المخاطر المالية دون أن تُلاحظ المؤسسات ذلك في الوقت المناسب. وإذا كان اختراق الشبكات التقليدية يؤدي إلى توقف خدمات، فإن «الاختراق العميق» يؤدي وقد لا يُكشف بسهولة إلى انحراف القرارات والوظائف الحيوية دون ضجيج، ما يجعله تهديدًا استراتيجيًا يُعادِل في أثره المساس بسيادة الدولة.
ولمواجهة هذا النوع من المخاطر، تحتاج دول الخليج إلى نموذج حوكمة موحد يتجاوز منطق اللوائح العامة و»الاستراتيجيات الموازية»، إلى منظومة متكاملة تربط بين البيانات والنماذج والبنية التحتية. فالحوكمة تبدأ من البيانات عبر تصنيفها وتحديد مستويات حساسية كل فئة، ومن ثم فرض ضوابط دقيقة على كيفية تخزينها ومعالجتها ونقلها عبر الحدود، بما يحفظ السيادة الرقمية ويقلّص مساحات الهجوم. أما على مستوى النماذج، فإن المرحلة القادمة تتطلب إنشاء سجل وطني للنماذج الخوارزمية الحساسة، وإخضاعها لتقييمات مخاطر صارمة قبل التشغيل، وإجراء اختبارات هجومية موجهة للخوارزميات ذاتها للتحقق من صمودها أمام محاولات التضليل، مع ضمان وجود سجلات قرارات تتيح تتبّعًا دقيقًا لأي خلل أو انحراف.
ويكتمل هذا النموذج بتطوير بنية تحتية تكنولوجية مبنية على مبدأ «انعدام الثقة»، بحيث لا يُفترض أمان أي عنصر داخل الشبكة - مستخدمًا كان أو جهازًا أو خدمة- إلا بعد التحقق المستمر، مع إدارة شديدة الانضباط لمخاطر سلسلة التوريد الرقمية. فالمزودون الخارجيون للسحابة أو البرمجيات أو الشرائح يمثلون اليوم نقاط دخول محتملة لاختراقات عميقة، ومن دون إدارة صارمة لهذه الحلقة سيبقى النظام أضعف من أن يواجه خصومًا ذوي قدرات متقدمة.
في المحصلة، فإن دول الخليج تمتلك اليوم الإرادة السياسية، والبنية المؤسسية، والاستثمارات اللازمة لبناء منظومة ذكاء اصطناعي متقدمة، لكنها تحتاج إلى خطوة حاسمة تتمثل في دمج هذه المنظومة داخل إطار الأمن الوطني. فالتحدي لم يعد في تطوير الذكاء الاصطناعي، بل في ضمان ألا يتحول إلى نقطة ضعف استراتيجية يمكن استغلالها. وإذا ما نجحت المنطقة في بناء منظومة موحدة تربط بين أمن البيانات، وسلامة النماذج، وهندسة انعدام الثقة، مع استيعاب الديناميات الجديدة للسوق والتحول المؤسسي، فإن الذكاء الاصطناعي سيغدو ركيزة صلبة للسيادة الرقمية، لا مجرد تقنية واعدة، وسيتمكن الخليج من تحويل طموحه الرقمي إلى قوة حقيقية تعزز موقعه في التوازنات الإقليمية والدولية.
    نيسان ـ نشر في 2025/11/30 الساعة 00:00