إسرائيل وفقدان الاتزان الإستراتيجي: قراءة مهنية في البنية والسياسات والخيارات المستقبلية
نيسان ـ نشر في 2025/12/03 الساعة 00:00
تواجه إسرائيل منذ عامين حالة متصاعدة من فقدان الاتزان الإستراتيجي؛ وهي حالة تتجاوز التراجع التكتيكي أو الظرفي، لتلامس جوهر البنية السياسية والمؤسسية للدولة العبرية، وتنعكس على قدرتها في إدارة الأزمات وصياغة القرارات المناسبة في البيئة الإقليمية والدولية. يتجلى هذا الفقدان في خطأ تقدير القدرات الذاتية، وإساءة فهم قدرات الخصوم، وتعاظم الصراعات الداخلية، في ظل تغول خطاب اليمين الديني والقومي.
أولًا: أزمة بنيوية تتجاوز مفاعيل الحرب
على مدى عقود، نجحت إسرائيل في ضبط تناقضات مجتمعها المركب، وبناء منظومات سياسية وقضائية وعسكرية متماسكة نسبياً. لكن السنوات الأخيرة – وخصوصًا منذ تشكيل حكومة نتنياهو الأكثر انحيازًا للصهيونية الدينية في 2022، ومنذ اندلاع معركة «السابع من اكتوبر 2023» – كشفت هشاشة هذا البناء.
فقد برزت أزمة العقد الاجتماعي الإسرائيلي بوضوح خلال احتجاجات 2023 ضد التعديلات القضائية، التي عمقت الانقسام بين المتدينين والعلمانيين، وأعادت طرح سؤال شكل الدولة وهويتها. كما تجلى التصدع المؤسسي في الصراع المفتوح بين الحكومة والجيش والشاباك والسلطة القضائية، وصولًا إلى سلسلة الاستقالات والإقالات التي طالت قيادات أمنية وعسكرية رفيعة، انعكست على كفاءة صنع القرار.
هذه المعطيات تؤشر إلى أن الأزمة ليست ظرفية، بل هيكلية تمس جوهر النظام السياسي وتوازنه الداخلي.
ثانيًا: اختلال تقدير البيئة الإستراتيجية
تعاني المؤسسة الإسرائيلية – كما يظهر في السلوك السياسي والعسكري – من سوء إدراك إستراتيجي للبيئة المحيطة. ويندرج ذلك ضمن ما تؤكده نظريات العلاقات الدولية، خصوصًا «نظرية سوء الإدراك» التي برز فيها روبرت جيرفس، والتي تشير إلى إمكان اتخاذ قرارات كارثية نتيجة قراءة خاطئة لقدرات الخصوم أو نواياهم.
وقد تجلى هذا الإخفاق في:
التقليل من قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود لمدى زمني طويل.
الفشل في إنتاج ردع مستدام، رغم القوة التدميرية الهائلة.
سوء تقدير تداعيات توسع الجبهات (غزة، لبنان، سوريا، اليمن)، الأمر الذي أدخل إسرائيل في حالة إنهاك عسكري واقتصادي.
تجاهل الأثر التراكمي للجرائم الواسعة على صورة إسرائيل دوليًا، ما أدى إلى تراجع غير مسبوق في شرعيتها وروايتها الرسمية.
وبذلك فقدت إسرائيل القدرة على المناورة الطويلة، وتحولت من التخطيط الإستراتيجي إلى إدارة أزمات متلاحقة.
ثالثًا: تآكل الردع وتراجع الشرعية الدولية
تستند إسرائيل تاريخيًا إلى ثلاث ركائز أساسية: الردع العسكري، التفوق الاستخباري، والدعم الدولي السياسي والاقتصادي. غير أن هذه الركائز تشهد اليوم تآكلًا واضحًا:
1. تراجع الردع التقليدي نتيجة قدرة المقاومة على الاستمرار في المواجهة.
2. اتساع العزلة الدولية، وإحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في قضايا تتعلق بالإبادة والتهجير.
3. تراجع التعاطف الغربي وصعود الاعترافات بالدولة الفلسطينية.
4. اهتزاز الثقة الداخلية في الحكومة والجيش، إذ تظهر استطلاعات الرأي تقدم المعارضة وتراجع شرعية القيادة الحالية.
هذه المؤشرات تضع إسرائيل أمام مأزق بنيوي لا يمكن تجاوزه عبر التفوق العسكري وحده.
رابعًا: خيط النجاة الأميركي وتأجيل الانهيار
شكلت خطة إدارة ترامب «لليوم التالي لغزة» وقرار مجلس الأمن 2803 مخرجًا مؤقتًا لإسرائيل من حالة الاستنزاف، عبر إعادة صياغة الترتيبات الميدانية بما يخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية، وتخفيف الضغط الدولي عليها.
غير أن هذا الدعم، رغم أهميته، لم يعالج أسباب أزمة الاتزان: الانقسام الداخلي، ضعف وحدة القرار، وتضخم الخطاب الأيديولوجي الذي يعادي التسوية ويعطل استقرار المنطقة.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية
تقود المعطيات الحالية إلى ثلاثة مسارات محتملة:
1. استعادة جزئية للاتزان
من خلال انتخابات وتشكيل حكومة جديدة أكثر براغماتية، وإعادة انتظام العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية، مع توسيع مسار التطبيع. لكن هذا الاحتمال يبقى هشًا ما دامت العقلية الحاكمة ترفض حلولًا عادلة للفلسطينيين وتعتمد منطق الهيمنة.
2. استمرار فقدان الاتزان
وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى المنظور، نتيجة الانقسام المتنامي، وتراجع الثقة بالمؤسسات، واستمرار السياسات العدوانية التي تستفز البيئة الإقليمية وتدفع نحو مزيد من المقاومة.
3. انهيار أوسع للاتزان الإستراتيجي
وهو احتمال أقل ترجيحًا لكنه وارد، خصوصًا في حال توسع نفوذ اليمين الديني المتطرف ودفع إسرائيل نحو مغامرات عسكرية تتجاوز قدرتها، مع تراجع الاستعداد الأميركي لتحمل الكلفة.
خاتمة: إن الأزمة التي تعيشها إسرائيل ليست عابرة، بل بنيوية تتعلق بطبيعة النظام السياسي والعقلية الأيديولوجية المسيطرة على القرار. وما يبدو من حالة «انتشاء» بعد وقف الحرب على غزة ليس سوى استراحة هشة، تُخفي خلفها حالة مزمنة من عدم الاستقرار الإستراتيجي، ستستمر في تشكيل تهديد طويل الأمد على مستقبل الكيان وعلى معادلات المنطقة برمتها.
أولًا: أزمة بنيوية تتجاوز مفاعيل الحرب
على مدى عقود، نجحت إسرائيل في ضبط تناقضات مجتمعها المركب، وبناء منظومات سياسية وقضائية وعسكرية متماسكة نسبياً. لكن السنوات الأخيرة – وخصوصًا منذ تشكيل حكومة نتنياهو الأكثر انحيازًا للصهيونية الدينية في 2022، ومنذ اندلاع معركة «السابع من اكتوبر 2023» – كشفت هشاشة هذا البناء.
فقد برزت أزمة العقد الاجتماعي الإسرائيلي بوضوح خلال احتجاجات 2023 ضد التعديلات القضائية، التي عمقت الانقسام بين المتدينين والعلمانيين، وأعادت طرح سؤال شكل الدولة وهويتها. كما تجلى التصدع المؤسسي في الصراع المفتوح بين الحكومة والجيش والشاباك والسلطة القضائية، وصولًا إلى سلسلة الاستقالات والإقالات التي طالت قيادات أمنية وعسكرية رفيعة، انعكست على كفاءة صنع القرار.
هذه المعطيات تؤشر إلى أن الأزمة ليست ظرفية، بل هيكلية تمس جوهر النظام السياسي وتوازنه الداخلي.
ثانيًا: اختلال تقدير البيئة الإستراتيجية
تعاني المؤسسة الإسرائيلية – كما يظهر في السلوك السياسي والعسكري – من سوء إدراك إستراتيجي للبيئة المحيطة. ويندرج ذلك ضمن ما تؤكده نظريات العلاقات الدولية، خصوصًا «نظرية سوء الإدراك» التي برز فيها روبرت جيرفس، والتي تشير إلى إمكان اتخاذ قرارات كارثية نتيجة قراءة خاطئة لقدرات الخصوم أو نواياهم.
وقد تجلى هذا الإخفاق في:
التقليل من قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود لمدى زمني طويل.
الفشل في إنتاج ردع مستدام، رغم القوة التدميرية الهائلة.
سوء تقدير تداعيات توسع الجبهات (غزة، لبنان، سوريا، اليمن)، الأمر الذي أدخل إسرائيل في حالة إنهاك عسكري واقتصادي.
تجاهل الأثر التراكمي للجرائم الواسعة على صورة إسرائيل دوليًا، ما أدى إلى تراجع غير مسبوق في شرعيتها وروايتها الرسمية.
وبذلك فقدت إسرائيل القدرة على المناورة الطويلة، وتحولت من التخطيط الإستراتيجي إلى إدارة أزمات متلاحقة.
ثالثًا: تآكل الردع وتراجع الشرعية الدولية
تستند إسرائيل تاريخيًا إلى ثلاث ركائز أساسية: الردع العسكري، التفوق الاستخباري، والدعم الدولي السياسي والاقتصادي. غير أن هذه الركائز تشهد اليوم تآكلًا واضحًا:
1. تراجع الردع التقليدي نتيجة قدرة المقاومة على الاستمرار في المواجهة.
2. اتساع العزلة الدولية، وإحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في قضايا تتعلق بالإبادة والتهجير.
3. تراجع التعاطف الغربي وصعود الاعترافات بالدولة الفلسطينية.
4. اهتزاز الثقة الداخلية في الحكومة والجيش، إذ تظهر استطلاعات الرأي تقدم المعارضة وتراجع شرعية القيادة الحالية.
هذه المؤشرات تضع إسرائيل أمام مأزق بنيوي لا يمكن تجاوزه عبر التفوق العسكري وحده.
رابعًا: خيط النجاة الأميركي وتأجيل الانهيار
شكلت خطة إدارة ترامب «لليوم التالي لغزة» وقرار مجلس الأمن 2803 مخرجًا مؤقتًا لإسرائيل من حالة الاستنزاف، عبر إعادة صياغة الترتيبات الميدانية بما يخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية، وتخفيف الضغط الدولي عليها.
غير أن هذا الدعم، رغم أهميته، لم يعالج أسباب أزمة الاتزان: الانقسام الداخلي، ضعف وحدة القرار، وتضخم الخطاب الأيديولوجي الذي يعادي التسوية ويعطل استقرار المنطقة.
خامسًا: السيناريوهات المستقبلية
تقود المعطيات الحالية إلى ثلاثة مسارات محتملة:
1. استعادة جزئية للاتزان
من خلال انتخابات وتشكيل حكومة جديدة أكثر براغماتية، وإعادة انتظام العلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية، مع توسيع مسار التطبيع. لكن هذا الاحتمال يبقى هشًا ما دامت العقلية الحاكمة ترفض حلولًا عادلة للفلسطينيين وتعتمد منطق الهيمنة.
2. استمرار فقدان الاتزان
وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى المنظور، نتيجة الانقسام المتنامي، وتراجع الثقة بالمؤسسات، واستمرار السياسات العدوانية التي تستفز البيئة الإقليمية وتدفع نحو مزيد من المقاومة.
3. انهيار أوسع للاتزان الإستراتيجي
وهو احتمال أقل ترجيحًا لكنه وارد، خصوصًا في حال توسع نفوذ اليمين الديني المتطرف ودفع إسرائيل نحو مغامرات عسكرية تتجاوز قدرتها، مع تراجع الاستعداد الأميركي لتحمل الكلفة.
خاتمة: إن الأزمة التي تعيشها إسرائيل ليست عابرة، بل بنيوية تتعلق بطبيعة النظام السياسي والعقلية الأيديولوجية المسيطرة على القرار. وما يبدو من حالة «انتشاء» بعد وقف الحرب على غزة ليس سوى استراحة هشة، تُخفي خلفها حالة مزمنة من عدم الاستقرار الإستراتيجي، ستستمر في تشكيل تهديد طويل الأمد على مستقبل الكيان وعلى معادلات المنطقة برمتها.
نيسان ـ نشر في 2025/12/03 الساعة 00:00