المطر والعشّاق والأخبار العاجلة

كامل نصيرات
نيسان ـ نشر في 2025/12/07 الساعة 00:00
هبط المطرُ هذا الصباح كقصيدةٍ نسيَت وزنها، فتدفّق على أرصفة المدينة بلا استئذان، يغسل الغبار عن حكايا العشّاق، ويُعَمِّدُ وجوه الصحراء ببللٍ يشبه الاعتراف المتأخّر. كان المطر يسير واثقًا، كمن يعرف أنّه الوحيد القادر على جعل اليابس يصدّق أنّ الحياة ليست كذبة موسمية، وأنّ القلب وإن تصحّر، لا يزال يحتفظ في تجاويفه ببذرةٍ خجولة تنتظر أول قطرة لتعلن العصيان.
العشّاق، في هذه البلاد، كالحروف إذا فقدت نقاطها؛ يُقرَأون بصعوبة، ويُفهمون على مضض. يقفون تحت المظلات المتعبة، يوزّعون الوعود كما يوزّع الباعة المناديل الورقية: كثيرًا ولا يُجدي. يقول أحدهم لحبيبته: «هذا المطر شاهدٌ علينا»، فتجيبه: «بل شاهدٌ علينا أننا صدّقنا.» فالعشق هنا تمرينٌ يومي على الإيمان بشيءٍ يتآكل، ثم نصرّ على ترقيعه بالشعر والقهوة ورسائل الواتساب الطويلة التي تنتهي دائمًا بابتسامة صفراء.
أما الصحراء تلك العجوز التي ما زالت تتزيّن بالكبرياء، فتضحك من رومانسيّتنا المفرطة، وتقول بصمتها الصلد: «المطر ضيفٌ عابر، والعطش مقيم.» والمطر يردّ عليها امتنانًا: «يكفيني أن أمرّ، فالمعجزات لا تُقاس بطول الإقامة.» وبين جدال القطرات والرمال، نظنّ أننا نفهم معنى الصبر، ثم نكتشف أننا فقط نؤجّل الخيبة إلى نشرة المساء.
وهنا، في قلب هذا المشهد الشاعري المتخم بالأمل الكسول، تقفز الأخبار العاجلة كذئبٍ معدنيّ يقتحم المرعى: عناوين حمراء تصرخ، إشعارات ترتجف في الجيوب، ومذيعٌ يتقمّص هيئة القدر وهو يحدّق في الكاميرا كأنه يقول: «اتركوا المطر والعشق، عودوا إلى الكارثة.» فجأةً يصبح للسماء سقفٌ من البلاغات العاجلة، وللقلب غرفة أخبار لا تعرف الإغلاق.
نرفع رؤوسنا إلى الغيم فنراه مشوّش البث، مثقلًا بالأرقام والتصريحات، فتتكسّر رومانسيّتنا على صخور الواقع ككأس شاي بارد. نقول: «سننجو بالحب»، فتجيبنا النشرات: «النجاة تحتاج بيانات.» نحاول أن نكتب قصيدة، فيقاطعنا تنبيهٌ عاجل، فنعدل عنها إلى تأوّهٍ قصير ونعود نحدّق في الشاشة كما لو أنّ خلاصنا معروضٌ بين فاصلين إعلانيّين.
ومع ذلك، يبقى المطر أكثر صدقًا من كل الأخبار. لا يبالغ في توصيف نفسه، ولا يَعِد بما لا يستطيع. يسقط ويمضي، تاركًا للعشّاق فرصة اصطحاب الوهم النبيل، وللصحراء لحظة تذكّر فيها أنها، مثلنا، كانت يومًا خضراء في حلمٍ بعيد.
وحدها الأخبار العاجلة لا تمطر إلا قلقًا ولا تروي إلا الفراغ.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/07 الساعة 00:00