تعددت النسوية .. واللحن واحد

فراس عوض
نيسان ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 00:00
لم تعد النسوية فكرة تتناثر في الهواء كما يتناثر الغبار فوق شارعٍ مزدحم، ولا رأيًا فرديًا يخرج من امرأة غاضبة أو ناشطة متحمسة، بل أصبحت شبكة واسعة من المدارس والمؤسسات والمنظمات والخطابات التي تعمل كما تعمل الجذور المتشابكة تحت تربة رطبة؛ نظنّ أن الأغصان منفصلة، بينما الحقيقة أن الجذور واحدة، وأن اللحن واحد، وأن الحركة تسير وفق إيقاع متكرر مهما تنوّعت الوجوه. ففي ظاهر المشهد تبدو النسوية الثقافية تتحدث عن اللغة والرموز، والنسوية القانونية تغيّر التشريعات، والنسوية الراديكالية تشدّد العقوبات وتوسع الرقابة، والنسوية الرقمية تبني موجات رأي عام وصوتًا إعلاميًا صاخبًا، فيما تتزيّن بعضهنّ بهدوء الاعتدال، كما لو أن الاختلاف بينهنّ اختلاف حقيقي. لكنه ليس كذلك. فهذا كلّه هو ما يسميه علماء الاجتماع عالميًا “النسوية المؤسسية”، المنظومة التي تعمل عبر تمويلات ومجالس ومنظمات ولوبيات، وهو ما انتقدته نانسي فريزر حين وصفت النسوية الحديثة بأنها أصبحت ذراعًا ثقافيًا لسلطة أخرى، وما هاجمته كاميليا بايليا عندما قالت إن النسوية الراديكالية انفصلت عن الإنسان، وما كشفته جانيس فامينغو حين تحدثت عن إنتاج سرديات تُخيف الناس من الرجل قبل أن تفهمه.
وحين اندلع الجدل حول “السوار الإلكتروني”، ظنّ الناس أنهم أمام قانون تغيّر أو إجراء تم تعديله، لكن الحقيقة أنهم أمام مشهد كامل من توزيع الأدوار التي تُدرّس في نظريات الإعلام تحت اسم “استراتيجية التناقض المتعمد”: مشرّع يكتب بنَفَس راديكالي في شدّ العقوبات، وإعلامية رقمية تروّج بأن القرار رحيم وإنساني ويحمي المعسر، ونسوية أخرى تخرج لتقول العكس، وثالثة تظهر كمعتدلة، ورابعة تعبئ الغضب الجماعي عبر خطاب الخوف. تناقض على السطح، تكامل في العمق، كما لو أننا نشاهد فرقًا موسيقية تتدرب في غرف متعددة بينما تعزف لحنًا واحدًا. فهذه السرديات المتعارضة ليست اختلافًا، بل تقنية عالمية لصناعة إرباك يدفع الناس نحو النتيجة المعدّة سلفًا. فالهدف ليس أن يفكر المجتمع، بل أن يشعر، وأن يتوه، وأن يقتنع من حيث لا يدري بالسردية التي تريدها الحركة.
غير أن المشكلة ليست في النساء، ولا في الرجال، بل في الفكرة حين تفقد إنسانيتها وتتحول من بحث عن العدل إلى رغبة في السيطرة، من محاولة لفهم الإنسان إلى محاولة لإعادة تشكيله بالقوة، من صوت حياة إلى صوت خصومة. فالعلاقات الإنسانية لا تُبنى على منطق oppressor / oppressed الذي ورثته النسوية الراديكالية من نظريات صراع قديمة لم تعد تُفسّر الواقع، ولا تُهذّب العلاقات بالعقوبات، ولا تُداوى النفس بالقوانين المتشددة، ولا تُصلح الأسرة بالضغط. إنّ أصل العلاقة بين الرجل والمرأة ليس الصراع، بل تلك الشرارة القديمة التي عرفها البشر منذ أن عرفوا المعنى: المودة، الرحمة، الرفق، التبادل، تلك الحاجة الهادئة التي تجعل أحدهما يبحث عن الآخر لا لينتصر عليه، بل ليكتمل به. وهذا ما تحدث عنه علماء النفس الإنساني من كارل روجرز إلى بول ريكور، حين قالوا إن الإنسان لا يعرف نفسه إلا حين يرى صورته العميقة في الآخر.
والمؤسف أن الأصوات النسائية التي ترى هذه الصورة العميقة، والتي تنتبه للظلم الواقع على الرجال وعلى الأطفال، قليلة جدًا، كأنها نجوم تظهر فقط في الليالي الخالية من الغبار. نساء عاديات، ناضجات، لم يدخلن في شبكات التمويل ولا في دوائر الضغط، يرين الإنسان قبل الأيديولوجيا، والعدل قبل الصراع، والعلاقة قبل الخطاب. هؤلاء—على قلّتهن—هنّ أكثر من لامس الحقيقة. أما بقية الطيف—حتى من يظهرن في ثوب الاعتدال—فإنهن جزء من الإطار ذاته: إطار يرى الرجل تهديدًا قبل أن يراه إنسانًا، ويرى الأسرة ساحة حرب قبل أن يراها حضنًا، ويعيد رسم المجتمع وفق ثنائية الصراع قبل أن يسمع نبضة الحياة نفسها.
وهكذا، مهما تعددت مدارس النسوية، ومهما اختلفت مسمياتها، فإنها تعود إلى اللحن ذاته: لحن الواحدية، لحن الأيديولوجيا التي تُعيد تشكيل كل شيء على صورة الصراع. والحقيقة أن الحياة أعقد وأجمل وأعمق من ذلك. الإنسان ليس فرضية أيديولوجية، ولا علاقة الرجل بالمرأة معادلة صفرية. إنهما، في الأصل، روحان خلقهما الله ليبحث كل منهما عن معنى في الآخر، لا عن غلبة عليه. والمستقبل الذي يستحق أن نراه ليس مستقبل القوانين المتصلبة ولا السرديات التي تصنع الخوف، بل مستقبل الوعي الذي يعيد الإنسان إلى مركزه، ويعيد العلاقة إلى أصلها، ويعيد المجتمع إلى لغته الأولى: لغة التوازن.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/09 الساعة 00:00