تمتع بالألوان قبل فوات الأوان

لطالما أحببت الألوان، كل الألوان لكني لم أكن أجرؤ على ارتدائها قبل التقاعد من العمل اليومي. وكنت أركن الى الأسود أو الرمادي أو الكحلي، وطبعا الى الأبيض للقمصان. بعدما «تحررت» من متطلبات الوظيفة استرجعت ما فقدته من متعة الألوان المبهجة ورحت أرتدي كل ما حرمت منه عشرات السنين.
لم يعد يهمني ماذا يقول المحيطون بي عني من زملاء عمل أو صديق أو صاحب سوبر ماركت أو عامل محطة بنزين. فلم أعد مديرا ولم يعد ثمة من يتهامسون: انظر ماذا يرتدي المدير اليوم؟
مارست الحب مع كل الألوان في كل الأوقات ما عدا المناسبات وهي قليلة، أو بالأحرى أنا من جعلها قليلة. ففي هذا العمر تميل الى العزلة الإيجابية مع نفسك ومع الشجر، مع التأمل ومع الأطفال، لا العزلة السلبية التي تؤدي الى الإحباط ثم الاكتئاب المميت.
لم أعد أحتمل الثرثرة والاستماع الى من يتحدثون كثيرا ولا يقولون شيئا. أولئك الذين إن لم يكن ثمة موضوع للحديث يخترعون موضوعا، أي موضوع لمجرد الثرثرة. ثمة من يمارس المجاملة «لزوم القعدة»، ومن يكذب على أساس القاعدة اللعينة: «الكذب ملح الرجال»، ومن يضحك لنكتة تستدعي الحزن لا الضحك، ومن لا يغلق فمه إلا ليرتشف القهوة أو الشاي.
ثمة من يشعرك أنه كان صاحب قرار تُفتح له الأبواب. لولاه لما ازدهر العمران وعلا البنيان، لما هطل المطر وارتوت الأرض وتوردت الأزهار. الكل يبحث عن مكان في حفلة عرس أو في عزاء.
احتاروا وحيرونا ولا أحد يضع يده على الجرح لكثرة الجراح.
ليسوا هم فقط بل الألوان أيضا حيرتنا.
بحثت لأعرف معانيها ومدلولاتها فوجدت أن لمعظمها معنيين متناقضين.
فالأحمر يرمز الى الخطر والتحذير، وأيضا الى الشغف والحب. الأبيض الى النقاء والطهارة والسلام وفي نفس الوقت الى الاستسلام. الأسود الى الهيبة والقوة والرسمية و.. أيضا الى الحزن.
الأزرق يعني الهدوء والثقة والحكمة والصفاء لكن الغيوم تخدش زرقته والبحر الذي بلونه، يصبح أحيانا بلون دم الحروب.
الأخضر يرمز الى الطبيعة والخصوبة وربما لذلك اختار الخالق هذا اللون للشجر ليحث البشر على إعمار الكون. أما الأصفر فإنه يرمز الى التفاؤل والإشراق والطاقة فكان لون الشمس لكنه هو أيضا يرمز الى الغيرة والخريف. البرتقالي الى الحيوية والدفء ويمنح شعورا بالحركة إلا أنه يعني التحذير في إشارة المرور.
الرمادي يرمز الى الحياد والتوازن والواقعية وأيضا الإحساس بالغموض أو الفتور.
فوق هذه الحيرة فإن معاني الألوان تختلف وفقا لمجالات استخدامها. فهي في الفن غيرها في السياسة، غيرها في الأزياء، وغيرُها.. حسب نظرتنا.
بعضنا، وخاصة المتقاعدين، ينسى أن يتمتع بالألوان وكيف أن حفنة مطر تُحوِّل العشب الأصفر الى أخضر وكيف تبدأ الثمرة التي نأكلها.. بزهرة.
هؤلاء مصابون بعمى ألوان حياتي، يرون كل الألوان لونا واحدا ويفوتهم الكثير من الجمال.