هل نحتاج إلى مدينة جديدة؟!
نيسان ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:00
أؤيد، بشدة، ما كتبه الصديق فهد الخيطان في مقالته أمس عن مدينة عمرة، إذ طالب بفتح الباب واسعاً لمناقشة فكرة المدينة وجدوى إنشائها وتأسيس مدينة جديدة وتحديد الغايات من ذلك، ومشاركة الجميع في التفكير في النموذج المطلوب منها، وأيضاً قرار الضمان الاجتماعي الجريء بالاستثمار بصورة كبيرة في هذه المدينة، من خلال شراء مساحة واسعة من الأراضي فيها.
التفكير في المدينة الجديدة بدأ منذ أعوام، في عهد حكومة هاني الملقي، حينما كان رئيس الوزرراء الحالي، د. جعفر حسان، نائباً لرئيس الوزراء، ثم جاءت حكومة الرزاز التي لم تؤيد هذا التوجه، بينما تلكأت حكومة بشر الخصاونة في التعامل معه، إلى أن عاد رئيس الوزراء الحالي ليكمل هذه الفكرة ويربطها بمجموعة من المشروعات الخدماتية والاقتصادية، مثل استاد كرة القدم الجديد، ومدينة ترفيهية وربطها بخطوط نقل فاعلة وحديثة، في محاولة – كما أكدت الحكومة – لتخفيف الضغط على المدن الكبرى المكتظة، بخاصة مدينتي عمان والزرقاء.
صحيح أنّ هذا النوع من المشاريع لا يمكن عزله عن التحولات الديمغرافية والاقتصادية والبيئية التي تواجه المدن الكبرى، لكن أيضاً لا يمكن فهمه فقط من منظور نقل الكثافة السكانية والضغط على الخدمات وأزمة النقل العام، فالمدينة الحديثة في الخبرة العالمية هي إطار إنتاج اجتماعي واقتصادي وثقافي متكامل، وليست تجمعاً عمرانياً محايداً.
إذا كان الهدف هو تخفيف الضغط عن عمّان وإربد والزرقاء، فإن هذا لا يتحقق بمجرد توفير مساكن أو شوارع جديدة، لأن السكان ينتقلون إلى أماكن ترتبط بوظائف وفرص تعليم وجودة حياة. التجارب الدولية غالباً ما تبيّن أن المدن الجديدة التي صممت كامتداد عمراني لم تنجح إلا حين ارتبطت بفكرة اقتصادية واضحة وبمؤسسات جاذبة للسكان. المدينة ليست جغرافيا فقط، لكنها منظومة مصالح وفرص وقدرة على إنتاج معنى يومي للحياة.
في كوريا الجنوبية وسنغافورة، بنيت المدن الجديدة بوصفها أدوات لإعادة تشكيل الاقتصاد وليس فقط لتوزيع الناس مكانياً. التخطيط العمراني هنا كان جزءاً من تخطيط استراتيجي أوسع للتحول نحو اقتصاد التكنولوجيا والخدمات المتقدمة. بالمقابل، تبيّن حالات عربية أن المدن الجديدة التي افتقرت إلى رؤية اجتماعية وثقافية تتحول إلى مشاريع عقارية فاقدة للحياة، رغم ما تمتلكه من مبانٍ حديثة وبنى تحتية واسعة. هذا يذكرنا بأن نجاح مدينة عمرة في المستقبل لن يقاس بعدد الكيلومترات أو المشروعات الموجودة، بل بمدى قدرتها على خلق دورة اقتصادية سريعة ومجتمع حضري قادر على التفاعل والاندماج.
يتعلق السؤال الآخر بطبيعة القرار ودوافعه. هل تُبنى المدن الجديدة بقرار حكومي مركزي وبتمويل من الموازنة العامة، أم يفترض أن تكون نماذج تشاركية تجمع الدولة والقطاع الخاص؟ تجربة العقبة الاقتصادية الخاصة، على سبيل المثال، أثبتت أن القطاع الخاص قادر على توليد قيمة مضافة عندما تُصاغ القواعد بوضوح وتوفر البيئة التشريعية الحوافز المناسبة. لكن التجارب التي تترك المدن الجديدة بالكامل للسوق تعاني من اختلالات اجتماعية وطبقية، في حين أن المدن التي تموّلها الدولة وحدها تعاني في الغالب من غياب الابتكار وضعف الاستدامة. لذلك فإن التوازن بين الرؤية الحكومية والإدارة الاقتصادية الخاصة يبدو شرطاً بنيوياً للنجاح، حيث تضع الدولة الإطار والمعايير بينما يتولى القطاع الخاص بناء الوظائف والدورة الاقتصادية.
يتصل بهذا البعد سؤال الهوية. فغياب مفهوم الهوية عن تخطيط المدن الجديدة يؤدي غالباً إلى إنتاج فراغات حضرية بلا محتوى اجتماعي أو ثقافي. المدن الأردنية التقليدية – رغم مشكلاتها الخدمية – تقدّم درساً مهماً في هذا السياق؛ فهي امتلكت روحاً عبر مؤسساتها التعليمية وشوارعها وبناها الاجتماعية والأسواق التقليدية والقيم الحضرية المتوارثة، فهوية المدينة الاجتماعية والثقافية مسألة من المفترض أن تكون جزءاً أساسياً من عملية التخطيط الحضري، وأن تكون مدخلاً رئيسياً في هندسة المدينة الجديدة وتحديد الأبعاد المتعددة لها، فبناء مدينة جديدة دون إدراك هذا المقوم يؤدي إلى إنتاج مساحات إسكانية بلا ذاكرة.
المدن، في النهاية، ليست قرار بناء، بل قرار معنى؛ فهي تعكس التصور الذي نحمله عن المستقبل. وإذا أراد الأردن أن ينجح في بناء عمرة، فعليه أن يبدأ من سؤال المستقبل: لأي اقتصاد نبني؟ لأي مجتمع؟ وما نوع الحياة التي نريد أن يعيشها الناس؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تجعل حجر الأساس أكثر من صورة افتتاحية، وتحوله إلى لحظة تأسيس لمشروع حضاري قابل للعيش والاستمرار.
التفكير في المدينة الجديدة بدأ منذ أعوام، في عهد حكومة هاني الملقي، حينما كان رئيس الوزرراء الحالي، د. جعفر حسان، نائباً لرئيس الوزراء، ثم جاءت حكومة الرزاز التي لم تؤيد هذا التوجه، بينما تلكأت حكومة بشر الخصاونة في التعامل معه، إلى أن عاد رئيس الوزراء الحالي ليكمل هذه الفكرة ويربطها بمجموعة من المشروعات الخدماتية والاقتصادية، مثل استاد كرة القدم الجديد، ومدينة ترفيهية وربطها بخطوط نقل فاعلة وحديثة، في محاولة – كما أكدت الحكومة – لتخفيف الضغط على المدن الكبرى المكتظة، بخاصة مدينتي عمان والزرقاء.
صحيح أنّ هذا النوع من المشاريع لا يمكن عزله عن التحولات الديمغرافية والاقتصادية والبيئية التي تواجه المدن الكبرى، لكن أيضاً لا يمكن فهمه فقط من منظور نقل الكثافة السكانية والضغط على الخدمات وأزمة النقل العام، فالمدينة الحديثة في الخبرة العالمية هي إطار إنتاج اجتماعي واقتصادي وثقافي متكامل، وليست تجمعاً عمرانياً محايداً.
إذا كان الهدف هو تخفيف الضغط عن عمّان وإربد والزرقاء، فإن هذا لا يتحقق بمجرد توفير مساكن أو شوارع جديدة، لأن السكان ينتقلون إلى أماكن ترتبط بوظائف وفرص تعليم وجودة حياة. التجارب الدولية غالباً ما تبيّن أن المدن الجديدة التي صممت كامتداد عمراني لم تنجح إلا حين ارتبطت بفكرة اقتصادية واضحة وبمؤسسات جاذبة للسكان. المدينة ليست جغرافيا فقط، لكنها منظومة مصالح وفرص وقدرة على إنتاج معنى يومي للحياة.
في كوريا الجنوبية وسنغافورة، بنيت المدن الجديدة بوصفها أدوات لإعادة تشكيل الاقتصاد وليس فقط لتوزيع الناس مكانياً. التخطيط العمراني هنا كان جزءاً من تخطيط استراتيجي أوسع للتحول نحو اقتصاد التكنولوجيا والخدمات المتقدمة. بالمقابل، تبيّن حالات عربية أن المدن الجديدة التي افتقرت إلى رؤية اجتماعية وثقافية تتحول إلى مشاريع عقارية فاقدة للحياة، رغم ما تمتلكه من مبانٍ حديثة وبنى تحتية واسعة. هذا يذكرنا بأن نجاح مدينة عمرة في المستقبل لن يقاس بعدد الكيلومترات أو المشروعات الموجودة، بل بمدى قدرتها على خلق دورة اقتصادية سريعة ومجتمع حضري قادر على التفاعل والاندماج.
يتعلق السؤال الآخر بطبيعة القرار ودوافعه. هل تُبنى المدن الجديدة بقرار حكومي مركزي وبتمويل من الموازنة العامة، أم يفترض أن تكون نماذج تشاركية تجمع الدولة والقطاع الخاص؟ تجربة العقبة الاقتصادية الخاصة، على سبيل المثال، أثبتت أن القطاع الخاص قادر على توليد قيمة مضافة عندما تُصاغ القواعد بوضوح وتوفر البيئة التشريعية الحوافز المناسبة. لكن التجارب التي تترك المدن الجديدة بالكامل للسوق تعاني من اختلالات اجتماعية وطبقية، في حين أن المدن التي تموّلها الدولة وحدها تعاني في الغالب من غياب الابتكار وضعف الاستدامة. لذلك فإن التوازن بين الرؤية الحكومية والإدارة الاقتصادية الخاصة يبدو شرطاً بنيوياً للنجاح، حيث تضع الدولة الإطار والمعايير بينما يتولى القطاع الخاص بناء الوظائف والدورة الاقتصادية.
يتصل بهذا البعد سؤال الهوية. فغياب مفهوم الهوية عن تخطيط المدن الجديدة يؤدي غالباً إلى إنتاج فراغات حضرية بلا محتوى اجتماعي أو ثقافي. المدن الأردنية التقليدية – رغم مشكلاتها الخدمية – تقدّم درساً مهماً في هذا السياق؛ فهي امتلكت روحاً عبر مؤسساتها التعليمية وشوارعها وبناها الاجتماعية والأسواق التقليدية والقيم الحضرية المتوارثة، فهوية المدينة الاجتماعية والثقافية مسألة من المفترض أن تكون جزءاً أساسياً من عملية التخطيط الحضري، وأن تكون مدخلاً رئيسياً في هندسة المدينة الجديدة وتحديد الأبعاد المتعددة لها، فبناء مدينة جديدة دون إدراك هذا المقوم يؤدي إلى إنتاج مساحات إسكانية بلا ذاكرة.
المدن، في النهاية، ليست قرار بناء، بل قرار معنى؛ فهي تعكس التصور الذي نحمله عن المستقبل. وإذا أراد الأردن أن ينجح في بناء عمرة، فعليه أن يبدأ من سؤال المستقبل: لأي اقتصاد نبني؟ لأي مجتمع؟ وما نوع الحياة التي نريد أن يعيشها الناس؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تجعل حجر الأساس أكثر من صورة افتتاحية، وتحوله إلى لحظة تأسيس لمشروع حضاري قابل للعيش والاستمرار.
نيسان ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:00