'تاريخ العطش' لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني

نيسان ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:00
لطالما شكّل العطش في المدونة الشعرية العربية منذ الوقوف على الأطلال في الجاهلية وصولا إلى مواجيد المتصوفة رمزا ثقافيا يتجاوز دلالته الحسية المباشرة، فهو ليس مجرد إعلان عن حاجة الجسد للماء، بل استعارة كبرى لحال الكائن البشري المقذوف في صحراء المعنى ونداء الروح التائقة إلى اكتمال مستحيل.
لكنّ الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب في ديوانه الأحدث "تاريخ العطش" الصادر عن الدار الأهلية في عمّان يذهب بهذه الاستعارة إلى تخومها القصوى، حيث يعيد صياغة هذا الرمز ليجعله محورا لسؤال شعري وفلسفي معاصر لا يؤرخ فيه للماء بل لغيابه، فيجعل من "العطش" هوية ومقاما، لا مجرد عارض يزول بالارتواء.
ويمثل هذا العمل الشعري المركّب محاولة لتفكيك بنية "الظمأ الكوني" وفق ما يقترح أبو شايب، فنلمس كيف تحول هذا العطش في نصوصه من حاجة بيولوجية إلى شرط وجودي للمعرفة، ومن معاناة فردية إلى مرآة لجفاف الواقع العربي الراهن.
العطش بوصفه بيانا وجوديا
منذ العتبة الأولى يضعنا العنوان "تاريخ العطش" أمام مفارقة دلالية لافتة، فـ"التاريخ" يعني التدوين والزمن والتراكم، في حين "العطش" يحيل إلى النقص والفراغ والعدم.
وهنا يبرز سؤال: كيف يمكن تدوين تاريخ لما هو "ناقص"؟
هنا يؤسس أبو شايب لفرضيته المركزية وملخصها أن العطش ليس حدثا عابرا، بل هو "سردية" ممتدة، ومادة أصيلة لبناء الوعي.
يفتتح الديوان بصوت يبلغ أقصى درجات الهشاشة والقداسة معا "أنا عطشان"، وهي مقولة السيد المسيح.
وبهذا الاقتباس الوجودي التراجيدي يضعنا أبو شايب مباشرة أمام فرضية الديوان المركزية: هل العطش هو المادة الأولى للحياة؟ وهل خلاصنا مرهون بقدرتنا على تحويل هذا النقص إلى رحلة كشف؟
مفتتح الديوان هذا يبدو أنه يحيل مباشرة إلى موروث ديني، لكنه فعليا لا يهدف إلى استدعاء دلالة دينية تقليدية، بل يهدف إلى "أسطرة العطش".

إن استعارة لحظة الظمأ الأقصى عند المسيح تخرج العطش من سياقه البشري المعتاد لتضعه في سياق الفداء والتراجيديا، فالعطش هنا هو لحظة المكاشفة الحقيقية بين الإنسان ومصيره وبين الجسد والروح.
وبهذا الاقتباس يخبرنا أبو شايب أن العطش هو المادة الأولى للحياة، وأن خلاصنا -أو ربما هلاكنا الجميل- مرهون بقدرتنا على اعتناق هذا النقص لا الهروب منه.
هندسة الديوان.. من التيه الذاتي إلى الظمأ الكوني
لا يترك أبو شايب نصوصه نهبا للفوضى، بل يقيم معمارا هندسيا تتوزع فيه تجربة الظمأ على 5 أقسام رئيسية تمثل محطات في رحلة الكشف: (1) "يسير داخل نفسه"، (2) "قلبك ينبع"، (3) "لو أنني مطر"، (4) "حفيد الماء"، و(5) "دفتر الأحوال والمقامات".
هذا التقسيم ليس شكليا، بل هو تطور عضوي لفكرة العطش، يبدأ من المحور الفردي المنكفئ حيث السير داخل الذات، والتيه، والأسئلة الوجودية حول الهوية "أبناء أنفسنا اليتامى التائهون بلا أب"، ثم يتسع ليدخل في جدلية مع الآخر/الأنثى "قلبك ينبع" حيث يتحول الحب إلى محاولة للري، وصولا إلى الفضاء الأرحب، الفضاء السياسي والكوني "ليل غزة"، "بئر معطلة"، حيث يصبح العطش حالة عامة تمس الأرض والتاريخ.
في هذه الرحلة يعيد الشاعر تشكيل الزمن، فالماضي في "تاريخ العطش" ليس زمنا منقضيا، بل هو بئر نحاول استعادة مائها، والمستقبل هو احتمال غامض يحتاج إلى صناعة، ففي قصيدة "موتى قدامى" يخلق حوارا مريرا بين الأموات والأحياء، ليصبح العطش هو الجسر الواصل بين الأزمنة، وكأن التاريخ العربي كله هو تاريخ من الظمأ المتوارث.
ولعل المفارق في تتبّع السيرة الإبداعية للشاعر أبو شايب أنه منذ بداياته الشعرية كان يعيش تحت ظل فكرة العطش بوصفها جذرا وجوديا لافتقاده الأعمق.
ففي ديوانه الثاني "دفتر الأحوال والمقامات" الصادر عام 1987 يتحدث في الاهداء عن العطش الذي أصابه به أبوه، وهو عطش يتجاوز الحرمان العاطفي إلى انقطاع بين الينبوع والوريث.
ذلك الانقطاع القسري عن الأب لم يكن حدثا عابرا في السيرة، بل ربما بذر البذرة الأولى للعطش الذي سيغدو لاحقا ثيمة مركزية في تجربته الشعرية، فالعطش عند أبو شايب ليس افتقادا للماء بل افتقاد للمعنى المؤسس، كأن كل قصيدة لاحقة كانت محاولة للعودة إلى ذلك الينبوع المفقود، إلى أب رمزي انقطع صوته، وترك للشاعر مهمة أن يروي صمته بالشعر.
ومع توالي التجربة لم يبق العطش عند أبو شايب جرحا شخصيا فحسب، بل تحوّل إلى بنية روحية متكاملة تنمو مع تطور وعيه بالشعر والحياة، فذلك الظمأ الأول الذي انبثق من فقد الأب صار عبر السنوات عطشا للمعنى ثم عطشا للجمال ثم عطشا للخلود.
في "تاريخ العطش" تبلغ هذه الثيمة نضجها الأقصى، إذ يتحول العطش من أثر نفسي إلى لغة كونية.
لم يعد الشاعر يتحدث عن الافتقاد بل عن السعي، ولا عن الظمأ بل عن المعرفة التي يولدها الظمأ، هنا يغدو العطش طريقا لا يروي، ووسيلة لا غاية، وشرطا للشعر نفسه، كأن ما بدأ في "دفتر الأحوال والمقامات" كصرخة ابن في وجه الغياب يكتمل في "تاريخ العطش" كصلاة إنسان بلغ الحكمة من خلال النقص، ووجد في عطشه دليل الحياة لا نفيها.
التحول الأسلوبي.. اقتصاد التعبير وشعرية الجفاف
لعل التحول الأبرز في تجربة زهير أبو شايب في هذا الديوان هو جنوحه الواضح نحو التخفف من الغنائية العالية، متخليا عن الإيقاعات التفعيلية الصاخبة التي ميزت بعض مراحل الشعر العربي، هذا الخيار الفني ليس اعتباطيا، بل هو استجابة ذكية لموضوع الديوان.
إن الكتابة عن "العطش" و"الجفاف" تقتضي لغة تماثل موضوعها، أي لغة متقشفة، صافية، عارية من زوائد البديع ودهون البلاغة التقليدية.
يمارس أبو شايب ما يمكن تسميته "اقتصاد التعبير"، حيث الجملة الشعرية قصيرة وحادة ومكثفة تشبه الومضة أو "الإشارة" الصوفية.
هذا الانتقال يتيح للشاعر استيعاب الفراغ الوجودي، فالوزن الخليلي أو التفعيلي يمنح امتلاء موسيقيا قد يخدع القارئ بشعور كاذب بالارتواء، في حين التحرر من الوزن أحيانا يوحي بنثرية مثمرة تكون هي الأقدر على تمثيل حالة التشقق واليباس التي يرصدها الديوان.
يقول أبو شايب في إحدى قصائده "نتساقط… بصمت… ضجة مثل حبات توت"، وهنا تكمن المفارقة، الضجة تحدث في الصمت، واللغة تقول أقصى معانيها حين تتخفف من ثرثرتها.
المعجم الصوفي الجديد.. ديالكتيك الماء والضوء
على الرغم من حداثة اللغة فإن أبو شايب يقيم علاقة واعية وعميقة مع الموروث الصوفي والفلسفي، إنه لا يحاكي ابن الفارض أو ابن عربي، بل يستدعي "الأحوال" و"المقامات" ليعيد تأويلها في سياق الزمن المعاصر الموحش.
وتتميز لغة الشاعر في هذا العمل بما يمكن تسميته "النقاء الصوفي"، حيث يوظف مفردات مألوفة ليمنحها أبعادا غامضة ومشرقة في آن واحد، وهو يبتعد عن الحشو ويمارس اقتصادا تعبيريا يجعل الكلمة أقرب إلى الومضة أو الإشارة، ويحافظ على إيقاع داخلي يتولد من حركة الجملة وتفاعلها مع الفراغ بدلا من الوزن التقليدي.
يُشغل الشاعر شبكة رمزية غنية يتقاطع فيها المقدس بالمدنس، والشخصي بالجمعي:
الماء والضوء: هما ثنائية البحث، الماء هو الغاية المنشودة "نهر الله"، والضوء هو المعرفة والكشف "أن بعض الظل نحن وأن بعض الضوء نحن"، ويدعو الشاعر إلى أن "يصبح الضوء أنقى".
الأب والبئر: الأب يرمز إلى الأصل الضائع أو المرجعية المفقودة "أبناء أنفسنا اليتامى التائهون بلا أب"، أما البئر -خاصة "البئر المعطلة"- فترمز إلى المنبع الروحي أو المعرفي الذي هُجر ولم يعد يروي.
الليل: ليس مجرد عتمة، بل هو فضاء المنفى والوجود "المنفى الذي يدعونه ليلا" ، وهو الصندوق الأسود الذي يورثه الآباء.
يقيم أبو شايب علاقة واعية بالموروث الصوفي والفلسفي في سياق معاصر، فالعطش يصبح مرادفا للهذيان المقدس، والحب يتحول إلى طريق لخلاص الروح، إنه يطالب بأن "نكون خفافا"، في إشارة إلى التحرر من ثقل الجسد والوجود المادي، مؤكدا أن الحقيقة تكمن في "الرقص في حضرة الغيب".
في معجمه الشعري يشتغل الشاعر على ثنائية "الماء والضوء"، الماء هو الغاية المنشودة (نهر الله، الارتواء، الحياة)، والضوء هو وسيلة المعرفة والكشف "أن بعض الظل نحن وأن بعض الضوء نحن".
لكنّ اللافت في طرح أبو شايب هو أن العطش يصبح مرادفا لـ"المعرفة"، يكتب "كلما شربتُ عطشتُ أكثر، لأن الماء لا يطفئ من يبحث عن الله".
هنا تتحقق المعادلة الصوفية: العطش هو الدليل، والري هو التوقف عن البحث، وبهذا المعنى يمدح الشاعر العطش لأنه يبقيه يقظا، ولأنه المحرك الأبدي للسير نحو الحقيقة.
تبرز أيضا رمزية "الأب" و"البئر"، الأب في الديوان يرمز إلى المرجعية المفقودة، أو الأصل الذي انقطعنا عنه "بلا أب".
هذا اليُتم الكوني هو سبب العطش الأول، أما البئر -وتحديدا "البئر المعطلة"- فهي المعادل الموضوعي للثقافة أو الروح التي هُجرت ولم تعد تروي أبناءها.
الشاعر هنا يمارس نقدا ثقافيا مبطنا، لقد ورثنا آبارا لكنها جافة، وعلينا أن نحفر آبارنا بأنفسنا، أي أن "ينبع قلبنا" كما يقول عنوان أحد الأقسام.
"ليل غزة".. السياسة من منظور العطش
تأخذ تجربة العطش بعدا واقعيا مأساويا حين تتماس مع الجغرافيا الفلسطينية، وتحديدا غزة.
لكنّ أبو شايب يحاذر السقوط في المباشرة السياسية أو الخطابة الحماسية، في قصائده عن غزة والشهداء يتحول السياسي إلى وجودي، واليومي إلى أسطوري.
في قصيدة "ليل غزة" يصبح العطش هو عنوان الحصار وعنوان الصمود أيضا، الجسد الفلسطيني هنا هو جسد يعاني العطش الفسيولوجي القاتل، لكنه يرفض الموت عطشا روحيا.
يكتب الشاعر عن الشهداء بصفتهم "يعودون من الشعر سالمين"، وعن البلاد التي يجب أن تكون "صالحة للرقص والحب"، يصبح "الصمت" في حضرة غزة فعلا مقدسا لئلا "يوقظ الشهداء".
هنا، يتحول الشعر إلى وثيقة إدانة للعالم الذي يترك شعبا كاملا للعطش والموت "نموت كثيرا، ولا يشعر الآخرون بنا".
العطش في غزة ليس استعارة، بل حقيقة، والشاعر يلتقط هذه الحقيقة ليعيد تصديرها للعالم كعار أخلاقي شامل، إنه يتساءل "ما هذه الأرض التي هي نحن؟"، وهو سؤال عن الهوية في زمن المحو، وعن الجدوى في زمن العبث.
في قصيدة "ليل غزة"، يصبح العطش هو عنوان الحصار، وعنوان الصمود أيضاً. الجسد الفلسطيني هنا هو جسد يعاني العطش الفيزيولوجي القاتل، لكنه يرفض الموت عطشاً روحياً
بواسطة حسين جلعاد
الانزياح عن النمطية
ما يميز "تاريخ العطش" أنه يتجاوز الخطاب السياسي المباشر إلى خطاب إنساني عميق، الشاعر لا يقدم شعارات، بل يقدم تجارب إنسانية ملموسة، والعطش هنا ليس مجرد استعارة، بل هو حقيقة يومية يعيشها الفلسطيني.
ويتميز الديوان بقدرة لافتة على تحويل المعاناة اليومية إلى فن رفيع، وترتقي اللغة الشعرية هنا من وسيلة للتعبير لتكون أداة للمقاومة والخلق.
وفي زمن تتحول فيه القضية الفلسطينية إلى أرقام وإحصائيات يعيدنا "تاريخ العطش" إلى الجوهر الإنساني، إلى الظمأ الأساسي للحياة والكرامة، هذا الديوان يؤكد أن الشعر لا يزال قادرا على أن يكون سلاحا وضميرا وذاكرة.
وبهذا المعنى، فإن "تاريخ العطش" ليس ديوانا عن الظمأ بقدر ما هو كتاب عن المعرفة التي تُستخلص من تجربة الظمأ القصوى، إنه يؤرخ لرحلة التحول من الإحساس بالنقص والضياع "موتى قدامى" إلى القدرة على اكتشاف النبع الذاتي "قلبك ينبع" وتسمية أسماء الماء الحسنى.
وفي هذا ينجح أبو شايب في أن يكون صوتا يعيد إلى الشعر العربي المعاصر بعده التأملي والروحي المنشود، مستخدما لغة شفافة ووجدانية هادئة، ليقدم الشعر كطريق للنجاة الرمزية.
ويؤكد أن من لا يعطش لا يقول شيئا، وأن اللغة هي آخر الآبار التي لم تجف بعد في هذا الشرق الحزين، فالخلاص بالنسبة للشاعر ليس في إيجاد الماء الجاهز، بل في أن تصبح القصيدة هي الماء ذاته.
الديوان في جوهره هو دعوة إلى الاكتفاء بالظمأ نفسه كمحفز أبدي للبحث عن المعنى، وفي هذا يكمن جوهر الحكمة الشعرية.
الأنثى والنبع.. خشبة الخلاص
في مواجهة هذا الجفاف الكوني والسياسي يلوذ الشاعر بـ"الأنثى" كمعادل للخصب والحياة، وفي القسم المعنون "قلبكِ ينبع" تتداخل صورة المرأة بصورة الأرض، والجسد بالطبيعة.
يمزج الشاعر بين المقدس والمدنس، أو بالأحرى يرفع المدنس (الجسد، الحب، الخمر) إلى مرتبة المقدس، لأنه الطريق الوحيد المتاح للارتواء اللحظي.
المرأة هنا ليست موضوعا للغزل، بل هي "تقنية نجاة"، "شهوة المطر" المخبأة تحت جلد الريح تقابلها شهوة الجسد للاتحاد بالآخر، يصبح الحب محاولة يائسة ولكن ضرورية لكسر عزلة الكائن، ولتحويل "العطش" إلى "فيضان".
في قصيدة "ربة عمّون" يستحضر الشاعر الآلهة القديمة ليمنح الأنثى بعدا أسطوريا قادرا على إعادة تخليق العالم من نقطة الحب، لا من نقطة الحرب.
يقدم الديوان صورة عميقة للمرأة كحاملة للعطش، وكحل له في قصيدة "ربة عمون" تتحول المرأة إلى رمز للخصب والمقاومة، حيث تمتلك القدرة على تحويل العطش إلى فيضان، الأنثى هنا ليست مجرد موضوع للحب، بل هي فاعلة في تاريخ العطش ومقاومته.
يقدم الديوان صورة عميقة للمرأة كحاملة للعطش وكحل له. في قصيدة "ربة عمون"، تتحول المرأة إلى رمز للخصب والمقاومة، حيث تمتلك القدرة على تحويل العطش إلى فيضان. الأنثى هنا ليست مجرد موضوع للحب، بل هي فاعلة في تاريخ العطش ومقاومته.
بواسطة حسين جلعاد
الشعر طريق للنجاة الرمزية
ديوان "تاريخ العطش" هو عمل شعري فريد يجمع بين الكثافة الرمزية والحمولة الثقافية، ويقدم تأملا عميقا في معنى الإنسان العربي المعاصر في زمن تتداخل فيه الأسطورة مع النكبة، والمقدس مع المنفى، والذات مع الجماعة، إنه ديوان يكتب العطش لا بوصفه نقصا، بل بوصفه شرطا للوجود وللشعر وللخلاص.
هذا الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل شهادة شعرية عميقة، وسفر روحي يضع الـ"أنا" الفردية في قلب التاريخ الملتهب، ليحول العطش من حالة جسدية إلى مفهوم وجودي وفلسفي.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/10 الساعة 00:00