الكوكب الأزرق والمستطيل الأخضر

رمزي الغزوي
نيسان ـ نشر في 2025/12/14 الساعة 00:00
لربما على الذين ما زالت تستفزهم مقولة الشاعر الإنكليزي روديارد كيبلينغ، الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً، أن يعرفوا أيضاً أنه وصف متابعي مباريات كرة القدم بالأرواح الصغيرة، التي يمكن أن يُشبعها «الحمقى الموحلون» الذين يمارسون تلك الرياضة.
بعد الاعتذار عن وشايتي الصغيرة هذه، بدا لي أن الرجل، ورغم حصوله على جائزة نوبل للآداب مطلع القرن الماضي مصاب بغصة كبرى علقت في سقف لسانه وخنقته، وقد رأى تهافت الناس على اللعبة وانشغالهم بها عن متابعة قصائده وأفكاره، وبعض مقولاته التي أبطل الزمن مفعولها ومضمونها.
اليوم. وفي عالم لا عداوات دائمة فيه ولا صداقات، عالم تحكمه المصالح المتغيرة المتقاطعة والمتباينة، ليس فقط أن الشرق غرب، والغرب شرق، بل إن الجهات كلها يا مستر كيبلينغ تلتقي بشكل جارف ومجازف فوق كرة صغيرة بمباريات حامية المشاعر، وكأنها تختصر برمزيتها دأب الناس وسعيهم نحو تحقيق أهدافهم في الحياة.
من الواضح أن شعورا مؤلما كان يتلبس أدباء القرن الماضي، مفاده أن الآداب والفنون في الحياة اليومية العادية عند السواد الأعظم من الناس تأتي في مراتب متأخرة خلف نجمية وشهرة أبناء المستطيل الأخضر، ولهذا لمسنا قطيعة بين هؤلاء الأدباء وتلك الرياضة ناهيك أن بعضهم شبهها بالوباء العاطفي وأفيون الشعوب والملهاة الشعبية، وقال آخرون منهم إن العالم بات مقلوبا، يفكر بقدميه ويركل برأسه.
أدباء القرن الحادي والعشرين باتوا أقل عدوانية تجاه تلك اللعبة وأصحابها والمتهافتين عليها، بل إن بعضهم تصالح مع الوضع وتفهم الموقف تماما. فعلى ما يبدو أنهم أيقنوا أن المستقبل البعيد لأسمائهم ونتاجاتهم، على اعتبار أن الأدب أخلد في فم الزمان وسمعه، بينما الحاضر لأصحاب السراويل القصيرة.
بعدما دك المعتصم بالله بن هارون الرشيد حصون عمورية قال الشاعر أبو تمام إن السيف أصدق أنباء من الكتب، واليوم يقول بعض الشغوفين بكرة القدم، إن اللعب أصدق أنباء من الكتب. هذا صحيح تماما. فالكل يجرؤ على الكتب وأهلها. ولكن هل من يجرؤ على القول، إن اللعب أصدق أنباء من الحرب، وسيوفها ومدافعها وبنادقها؟
قبل قرون اقترح حكيم صيني أن تلغى المعارك الطاحنة الدموية بين البشر، وتتحول إلى مباريات صامتة بلعبة الشطرنج، والفائز يأخذ ما يريده من الخاسر. هذا الاقتراح لم يلتفت إليه أحد، فظلت الحروب تتفاقم في جهات الأرض كلها. والآن يجيء من يقترح أن تغدو كرة القدم بديلا عن حروب المدافع والطائر والمسيّرات. أي أن تكون المباراة فيصلا في فض الخصومات والنزاعات. فهل يأتي حين من الدهر يسود فيه صاحب الركلة السديدة عالمنا دون إراقة قطرة دم؟
صحيح أن الشطرنج وكرة القدم اقتراحان جديران بالمحبة والسلام، لكنك لن تجد من يشتري هذه البضاعة البائرة، فشهوة الدم ما زالت الأقوى في كوكبنا الأزرق.. الأحمر.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/14 الساعة 00:00