شتاء وعدس وصــوبــة كــاز

رشاد ابو داود
نيسان ـ نشر في 2025/12/16 الساعة 00:00
تحتار أيُّها تتذكّر، صوبة الكاز، العدس كوجبة غداء لا شوربة ما قبل الغداء. وجبة كاملة الدسم والدفء و..ضيق الحال. أم تتذكّر ماء الحنفية صباحًا يصيب وجهك بالخدر والخذلان. البابور أغلى ما تملك في الشتاء، نمرة 2 لك ونمرة 3 لميسوري الحال. أم تتذكّر وحل الطريق إلى المدرسة تغطس فيه قدماك فيصعد حتى ركبتيك كتراشق لون في لوحة سريالية.
كانت فعلًا سريالية الحياة، لكنها كانت حقًّا... حياة؟
كيف وصلت من ذاك البيت العتيق إلى قصور لندن الأنجلوساكسونية ووقفت حيث كان يقف شكسبير ينجب روميو وجولييت وهاملت و.. شايلوك الذي احتل أحفاده أرضك وبحرك و.. أقصاك؟
أيّ طريق سلكت من ذاك الطريق الموحل إلى بلد جان جاك روسو وموليير وديغول؟ وأيّ قطار أقلّك إلى ضفاف السين وزرقة الراين، وغيرك من أترابك إلى ضفاف الفولغا وبلد دوستويفسكي وحمزاتوف وحديد البلاشفة وأرستقراطية القياصرة؟
يااااه ما أصغر القرية والمخيّم والمدينة التي ظلّت تحت شمس الغياب.
لكن الإنسان هو الكل. وكلّ ما على الأرض للإنسان. بيده أن يبني وبيده أن يهدم. السواعد بمن يحملها والعقل جوهر الإنسان.
كان لا بدّ من أن تتعلّم وأن لا تتلعثم قدماك في وحل وشوك أو مطبّات الحياة. جزمة ماركة عصفوركو ذات الطبعة الصفراء بدينار ونصف الدينار، حذاء من البالة بعشرين قرشًا ونخب أول بنصف دينار. الكبود الذي أصبح اسمه الحديث البالطو، موجود من السنة الماضية. أصبح ضيّقًا على أخيك الأكبر فقدّرك أن ترثه. لا يهمّ القدمان ما دام الرأس بخير. لفحة تلفّها عليه تغطّي أذنيك، طاقية صوف تغطّي رأسك وتوابعه ولا يظهر منها إلا عيناك وأنفك لتتنفّس. المهمّ أن الهواء كان نقيًّا خاليًا من الفساد.
هل قلنا الفساد؟ بلى إنّه مرض المرحلة العربية. من أقصى مدينة على الأطلسي إلى أصغر قرية على الخليج العربي. ابتعد عشرة كيلومترات عن وسط أيّة عاصمة تجد فرقًا يزيد عن عشرين سنة وربما أكثر. هنا في العواصم، مولات ومطاعم فاست فود وشوارع مسفلتة وسيارات فخمة وناس يرتدون الماركات، ومن لا يستطيع فالبركة بمحلات التصفية والبضائع الصينية التي تصلح للبسة واحدة فقط.
وهناك الفلافل المقلي بعضه بزيت منتهي الصلاحية، بدل المولات.. بالات على بسطات سرقت الأرصفة، شبه شوارع باكية، منازل متهرّئة، وبدل الهامبرغر والتوست المحمّص والزبدة المرفّهة قطعة خبز تُغَطّ في كاسة الشاي فطور الكثيرين و.. أسرع قبل أن يرنّ جرس المدرسة.
الخلل ليس في الشتاء ولا في البرد بل في من فقدوا الإحساس. اختفت الطبقة الوسطى تدريجيًّا. منهم من اعتلى صهوة فقره بكدّه وعرقه و.. مدرسته وانضمّ إلى أعلى، ومنهم من ركب الموج في بحر الفساد وبقدرة فاسد انضمّ إلى طبقة المليونيرات. الخلل في أن الكذب أصبح موهبة والفهلوة شطارة والنفاق يفتح الأبواب.
يخيّل إليك أن المدينة وهم وما تراه سراب. المدن الحقيقية صدى للقرى والأرياف.
الطريق بينها، منها وإليها، كان يجب أن يظلّ سالكًا بانتظام في الاتجاهين. وأن تتوزّع الثروات على الإنسان أينما كان. الأوطان ليست العاصمة فقط والإنسان الجائع تصبح بطون أبنائه.. وطنه!
    نيسان ـ نشر في 2025/12/16 الساعة 00:00