مدارات الذاكرة في رواية توابيت وقبر واحد للأديب عمر أبو الهيجاء

نيسان ـ نشر في 2025/12/22 الساعة 00:00
محمد فتحي المقداد
فلسطين فوق الذاكرة وما دون التأريخ في رواية «توابيت وقبر واحد»، هذه الرواية التي جاءت من الكاتب «عمر أبو الهيجاء» الذي يعتبر من الجيل الثالث من جيل الجد الذي عاصر النكبة 1948، وحدث اللجوء الأول داخل فلسطين، وبعد النكسة 1967 حدثت موجة اللجوء الواسعة والشاملة إلى الضفة الشرقية «الأردن».
وفي مدارات ذاكرة «عمر أبو الهيجاء» حكايا وأساطير وهموم وآمال القرية، فاستطاع اِسْتنهاضها لصنع توليفة سردية روايته «توابيت وقبر واحد»، وإحيائها في صفحات لتبقى شاهدة على زمن مضى موسوم برسم النِّسيان مع تقادُم الأيام، ولكنَّه أنقذها.
وبالتوقُّف في رحاب العنوان «توابيت وقبر واحد» الذي على هيئة جملة اِسْميَّة ذات دلالات عديدة تُغري بفتح نوافذ التساؤلات. لماذا توابيت بصيغة الجمع وهي كثيرة غير محددة العدد، وهذه التوابيت بحاجة لقبور بعددها، ولكنَّ الصَّدمة تأتي في العبارة ما بعد الفاصلة المفترضة، وبعدها حرف العطف «الواو»، بصيغة «وقبر واحد».
ولم يتركنا النصُّ الروائيُّ في حَيْرة من الأمر، ليأتي تفسير دلالة العنوان في العبارة التالية: (الجثث ملقاة على طرف الطريق المتجه ناحية «الكبنية»، جثث الجنود الأربعة النتنة، وجثتا «أبو عتابا وهزاع» من الناحية الأخرى. يقترب «مناحيم وأهود» وبعض الجنود يأمرهم سحب الجثث وعمل مراسيم الوداع لها ومن ثم يتم دفنها، ما عدا جثتي هذين الرجلين. توابيت وقبر واحد لنحملهما على سيارة الجيب، ونأخذهما إلى القرية ليتعرَّف عليهما الأهالي، ومن ثم إعادتهم إلى المستوطنة ودفنهم في قبر واحد) ص103-104
يتبيَّن من خلال هذه الفقرة المُقتَبَسة من الرِّواية، بأنَّ هناك أربعة توابيت للجنود الإنجليز القتلى، والتي على الأغلب تُنقَل وتعود إلى بلادها في بريطانيا، والقيام بدفنهم ضمن مراسيم عسكريَّة. وكانت المعركة مع أبناء القرية والتي اِسْتُشهد فيها «أبو العتابا وهزاع» الذين تقرر دفنهما في قبر واحد.
وبعد العنوان جاءت رسالة الكاتب إلى القراء من خلال الإهداء: (إلى المنفيِّين على أطرافِ الأرض). والعبارة واضحة جليَّة بلا احتمالات خافية، المنفى والشَّتات الذي لم يخصِّصه عمر أبو الهيجا للفلسطينيِّين حصرًا، إنَّما أخذ البُعد الإنساني المُطلَق في قضيَّة المنفى والتشريد والتهجير، وفي المنفى حوارات مجتمعات المنفيين، التي تخصُّ قضاياهم في المنفى وفي بلدهم الذي تركوه هناك، وهذا ما يذكرنا بحوارات المنفيين للكاتب الألماني «بريخت. بريشت»، فالمنفى كمبدأ هو واحد منذ فجر التاريخ وصولًا للحظتنا الرَّاهنة.
وعلى صفحة الغلاف الخلفيِّ للكتاب التي احتوت على مقطع مُعبِّر من الرواية: (يَمضي الوقتُ ثقيلاً على القريةِ «غزالة»، صباح اليوم الذي تمَّ الاتفاق عليه لمعرفةِ الأخبارِ، يَشقُ الأهالي مَداخلَ الطُّرقات منتصبين كشجرِ الزيتونِ في انتظارِ «فرحان»، هذا أوان «الشدِّ فاشتدي» يا أرضُ وأمطري يا سماء أمطري، الآن صباحُ الصحو والنبضِ المُحملِ بالغَضبِ العَارم، وانتفاضة دم ساخن في العروق). وفي هذا تتبيَّن طبيعة ومنحى الرِّواية المُقاوم للاستعمار، للدَّفاع عن أرضهم وعرضهم ووجودهم المُتشبِّث بموطنهم، وهو قرية غزالة وفرحان أحد رجالاتها، والقرية بأكملها تنتظر عودته، الترقُّب والغضب والدم يغلي في العروق.
مطالعة الرواية يسيرة وسهلة جاءت سرديَّها بحكايات فلسطينيَّة على محمل الذَاكرة، بما اختزن الكاتب في ذاكرته من حكايا وحوادث شاهدها وعاينها، وأخرى مسموعة ومقروءة، استطاع عمل توليفة متماهية مع الخطِّ العامِّ للرواية بتوافق معقول ومُقنِع، وذلك على محمل لغة شفيفة بسيطة أوصلت مضمون الرسالة التي أرادها الكاتب، والرواية بطبيعة تكوينها من المعلون أنَّها سجلٌّ وثيق ومُوثّق لمرحلة زمنيَّة، وذلك لتثبيت الذَّاكرة الجمعيَّة للحاضر والمُستقبل، وتبقى القضيَّة الفلسطينيَّة نابضة بالحياة... ولن تموت أبدًا..
    نيسان ـ نشر في 2025/12/22 الساعة 00:00