قصة من بيت حانون |

نيسان ـ نشر في 2025/12/24 الساعة 00:00
قبل أسبوعين فقط، وفي عمقٍ لا تبلغه الشمس، كان ثمانيةٌ من أبطال المقاومة يرابطون تحت الأرض، سبعون مترًا من الصمت يفصلهم عن فرقةٍ صهيونيةٍ كاملة تعيث فوقهم ظنًّا منها أن الأرض قد ابتلعت من فيها.
عامان كاملان عاشوها بين جدران النفق، لا يرون السماء، لكنهم كانوا يرون الله في كل تفصيلة. كل يومٍ كانوا يخرجون من فتحاتٍ خفيّة، كأنهم أشباح العدالة، يقتنصون المحتلين واحدًا تلو الآخر، ثم يعودون إلى باطن الأرض كما يعود النبض إلى القلب.
وسخّر الله لهم ما لا يخطر على بال؛ ماءً نَزّازًا ظلّ يرويهم عامين كاملين في عمق الظلمة، وكأن الأرض نفسها كانت تتبرع لهم بالحياة. ولم يكونوا وحدهم؛ قططٌ جميلة، كثيرة على غير عادة، نزلت إليهم، تسللت إلى الأنفاق، تشاركهم الطعام، وتؤنس وحشتهم، كأن الرحمة قررت أن تتجسد فروًا وعيونًا وخرير مواء.
حتى جاء اليوم المختلف…
اهتزّت الأرض من فوقهم اهتزازًا لم يعرفوه من قبل. انفجارات عمياء، صواريخ ارتجاجية وخارقة للأنفاق، كأن الجحيم فُتح بابه فجأة. غار الماء، نفد الطعام، وضاق النفس. أدركوا أن اللحظة قد حانت؛ إما خروجٌ إلى مواجهةٍ مباشرة، أو موتٌ صامت تحت الردم.
اتخذوا القرار الذي لا يتخذه إلا الأحرار: الخروج… والاستشهاد واقفين إن كان لا بدّ.
وقبل أن يسبقهم واحدٌ منهم، خرجت القطط أولًا، كأنها تستأذن النهاية أو تفتح الطريق.
أرسلوا أحدهم ليستطلع، فعاد بوجهٍ شاحب يخبرهم: كل شيء يُقصف، كل شيء يُدمَّر… إلا فتحة النفق. هناك، فوقها مباشرة، كان مشهدٌ لا يُصدَّق: مئات الطيور تحوم وتدور، كأنها سورٌ من جناح، تحجب الصواريخ، وتحرس الممرّ الخفي.
حينها فهموا…
خرجوا بأجسادٍ نحيلة أنهكها الصبر، وبشعورٍ طويلة تشبه أهل الكهف. وما إن وطئت أقدامهم الأرض حتى نزل عليهم غمامٌ كثيف، ستارٌ رحيم غطّى المكان. مرّوا بين الدبابات، بمحاذاتها، يلامسون الحديد ولا تُبصرهم العيون. القطط تسير معهم، والسماء تتواطأ، والأرض تصمت.
مشى الأبطال حفاة، خطوةً وراء خطوة، حتى تجاوزوا المنطقة الصفراء، حتى لامسوا الأمان. عندها… تبخّرت القطط فجأة، كما جاءت، بلا أثر.
أشاروا لسائق “تكتك” عابر، حملهم دون أن يسأل، إلى السرايا، إلى حلاقٍ بسيط. جلسوا أمام المرآة، تساقط شعر عامين طويلين، وبقيت القصة.
يحكيها اليوم حلاقٌ صادق، ويختمها كما بدأها:
هؤلاء أبطالٌ كانوا في عناية الرحمن… عناية لا حدود لها.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/24 الساعة 00:00