حين تصنعُ الأمةُ ضعفَها:

مريم عرجون
نيسان ـ نشر في 2025/12/25 الساعة 00:00
حين تصنعُ الأمةُ ضعفَها:
أريدُ أن أسألَ كي أبقى، لكنَّ السؤالَ مُصادَرٌ في العقول، مُكَبَّلٌ في المناهج، لا يَخرجُ إلا مُشَوَّهًا، أو لا يَخرجُ أصلًا، وحين يُمنَعُ السؤالُ، يدخلُ التاريخُ في نومٍ ثقيل، وتتحولُ الأممُ مِن فاعِلٍ إلى شاهدٍ أخرس، ومِن صانعةٍ للمعنى إلى حُطامِ معنى.ليس الانهيارُ حدثًا مفاجئًا ينقضُّ من الخارج، بل هو نَحْتٌ بطيءٌ في وعيٍ متعب، تَصَدُّعٌ يبدأُ شَقًّا دقيقًا في جدار العقل، يتسعُ حتى يبتلعَ القوةَ فيُفرغَها من مضمونها، ويُهشِّمَ المعنى فيُفرغَ الدينَ من روحه والسلطةَ من قلبها، هنا لا يسقطُ الوطنُ لأنَّ العدوَّ أقوى، بل لأنَّ الفكرةَ خانَتْ أصلَها، ولأنَّ العقلَ أُقصيَ والمساءلةَ أُجِّلتْ، وحينئذٍ تتحولُ الأمةُ حين تقصي العقل وتؤجل المساءلة من يد تكتب التاريخ الى مادة خام يعجنها الزمن كما شاء، ولا يهدم حضارة فقط بل يبعثر الف تاريخ لن يكتب.وليست محنُ هذه الأمة أعراضًا طارئة، ولا انكساراتُها زلَّاتٍ معزولةً عن سياقها، بل هي سيرةُ خللٍ طويلٍ بدأ في الفكرةِ قبل أن يستقرَّ في الواقع، وفي المعنى قبل أن يتجسَّدَ في السلطة، فالأممُ لا تبدأ سقوطَها يومَ تُكسرُ في الميدان، بل حين يختلُّ ميزانُ العقلِ والقوة، وحين ينفصمُ العهدُ بين الإيمانِ والفعل، وحين يُقصى السؤالُ عن مقامِه الطبيعيّ، فيغدو الانهيارُ صامتًا، بطيئًا، زاحفًا، كالسوسِ ينخرُ عظامَ البنيانِ من الداخل، دون أن يسمعَ له أحدٌ صوتًا.ومِن هذا الخللِ المتراكمِ، تتوالدُ الأزماتُ لا بوصفِها مفاجآت، بل بوصفِها نتائجَ حتميةٍ لمسارٍ انحرفَ طويلًا، مسارٍ أصابَ الفكرةَ في مهدها، والوظيفةَ في مقصدها، والميزانَ في معاييره، فحين تُقتلعُ المعاني من جذورها، وتُختزلُ السلطةُ في بطشٍ أعمى، ويُنفى العقلُ عن مقامِ المساءلة، تُدارُ الأزماتُ بالأدواتِ نفسها التي صنعَتْها، وتُستنزفُ الأممُ بأيدي أبنائها، حتى تفتحَ عينيها متأخرةً على حقيقةٍ موجعة أنها لم تكن ضحيةً خالصة، بل شريكًا صامتًا في صناعةِ ضعفِها.وفي هذا العتمِ الكثيف، أُودعتْ مقاليدُ الحكمِ في أيدي طغاةٍ لا يملكونَ من القيادةِ سوى قسوتِها، ثم دُفعَ الأمرُ إلى زمرٍ من الجهلةِ وأهلِ الولاءِ الأعمى، فتحولتِ الدولةُ إلى ميراثٍ خاص، والسلطةُ إلى غنيمة، والحكمُ إلى شبكةٍ مغلقةٍ من المصالح، هناك لم تعدِ الخيانةُ استثناءً، ولا الظلمُ حادثًا عابرًا، بل صارَ القبحُ نظامًا، والانحرافُ قاعدة، وارتُكِبَ باسمِ الأمةِ من الفظائعِ ما تعفُّ عنه حتى سجلاتُ الطغيانِ الكبرى.ولم يقفِ الخرابُ عند حدودِ السياسة، بل انسحبَ إلى روحِ الجماعة، حين تراجعَ أهلُ العلمِ عن مقامِ الشهادة، وآثروا السلامةَ على الصدعِ بالحق، صمتوا حيث يجبُ الكلام، وتوارَوْا حيث يتعيَّنُ الظهور، فشاهدوا الحقَّ يُغتصبُ والمنكرَ يستشري دون مقاومة، حتى أُفرغَ العلمُ من معناه، وتحولَ من سلطةٍ أخلاقيةٍ تُقيمُ الميزان، إلى حضورٍ باهتٍ لا يقلقُ ولا يغيّر، وكيف يُرتجى للعلمِ أثر، وقد اختارَ أهلُه الصمتَ مقامًا؟وهكذا تتكررُ المأساةُ كلما بلغتِ الأزمةُ ذروتَها، حتى يُخيَّلَ أنَّ الليلَ قد استحكمَ وأنَّ الفجرَ أُجِّلَ إلى أجلٍ غيرِ مسمى، غيرَ أنَّ الانفجارَ لا يولدُ صدفة، بل يتشكلُ في الأعماق، فإذا بالأصلِ الدفينِ يتحرك، وبالجذوةِ الخفيةِ تشتعل، فتنتفضُ الأمةُ من ركامها، وتزيحُ رموزَ الفسادِ عن مواضعِ القيادة، وتنزعُ أدعياءَ الهدايةِ عن مقامِ الإمامة، وتلفظُ كلَّ دخيلٍ فاسدٍ إلى خارجِ جسدِها الحي.لقد خاضتْ هذه الأمةُ البلاءَ فعرفتْ معدنَها، ومرَّت بالتجربةِ فشهدتْ بصدقها، إذ ظلتْ جذوةُ الإيمانِ في صدرِها كجذوةِ الذهبِ في أعماقِ الأرض، لا تبيدُها السنونُ ولا تطفئُها العواصف، غيرَ أنَّ دورانَ الزمنِ وسوءَ التدبيرِ أتعباها، حتى غدتْ من حيث لا تدري شريكًا للدهرِ في إنهاكِ ذاتها، فافتُتنتْ بدنياهَا حتى سلَّمتها لعدوِّها، وافتُتنتْ بدينها حتى كادتْ تتلقاهُ مشوَّهًا، منزوعَ الروح، طقسًا بلا أثر، لا مشروعًا لبناءِ الإنسان.ومع ذلك، لم يُسدَلِ التاريخُ ستارَهُ بعد، فما دامَ في هذه الأمةِ قلبٌ نابض، وعقلٌ قادرٌ على المراجعة، فإنَّ الجوهرَ المكنونَ لا بدَّ أن يستيقظ، وحين يستيقظ، لا يكتفي بالاحتجاج، بل يعيدُ ترتيبَ المعاني، ويستردُّ العلاقةَ الصحيحةَ بين الفكرةِ والقوة، وبين الإيمانِ والعمل، وبين الأخلاقِ والسياسة، عندها لا تصنعُ هذه الأمةُ المعجزات، بل تستعيدُ موقعَها الطبيعيَّ في مسارِ التاريخ، فاعلًا لا مفعولًا به، وصانعةً للزمنِ لا أسيرةً له.
    نيسان ـ نشر في 2025/12/25 الساعة 00:00