خالد الكركي سياسي يحرس مجمع اللغة العربية
نيسان ـ نشر في 2016/01/16 الساعة 00:00
محمد قبيلات.. العرب .. في مطلع الخمسينات من القرن الماضي انطلق ابن السادسة من قرية العدنانية المُصغية راخية أسماعها لأجياد العرب التي ما زال صهيلها يصدح في السهول والتلال المحيطة بمؤتة.
من هناك بدأ الجنوبي خالد عبدالعزيز سليمان الكركي الكاتب والأديب والشاعر والسياسي الأردني برفقة أخيه الأكبر باحثا عن مدرسة، فلم تعد خيمة الكتّاب تُلبي حاجات نفسه الشغوفة بالحرف.
أسوار الكرك
يمّم صوب الكرك، القلعة المتربعة على جبال من مجد تليد، فما إن بدت له أسوارها حتى غزت نفسه الرّغبة بالمعرفة، الرغبة باستجلاء الأسرار، وكشفِ كل ما توارى خلف الأسوار. فاقتحمها كما الفاتحين، بنفسٍ تجيشُ بحماسة بدوي لا يخطئ أهدافه.
روحه الغضة كانت تتنسّم هبّات أخذته، على حين وجد، إلى عبق السنين الموغلات في التاريخ. هناك تنفس روائح معتقة بأمجاد مملكة مؤاب، مفطورة على حبّ جبال الشراة المشرئبة نحو فلسطين، حملتها نسائم معمّدة مجبولة على الزهوّ والاعتداد البدوي الذي رآه سناما للمجد، فحلّق بمخياله باحثا عن تسمية تليق بكل هذه الأمجاد، ومن دون عناء كثير اهتدى الى وسمها بـ “خشم العقاب”.
تعلّم هناك كيف يكوّر الحروف، ومتى يمدها، وأين يقف. أثناء عودته من المدرسة، كان يراقب المنحدرات الهابطة من جنبات قلعة الكرك حيث أحد معاقل صلاح الدين الأيوبي تلك المعانقة للسماء، فتأخذه جولة التفكُرِ الى دورات تاريخ الأمم ولعبتها، كم مرَّ على هذه القلعة من غزاة وفاتحين، قلعة ظلت آلاف السنين عصيّة إلا على من استطاع أن يمتلك مفاتيحها بالحب.
طريق السلطاني
كان ينظر إلى اللوحات الطبيعية البعيدة من علٍ، فترسّب في أعماقه الى جانب الشعور بالحصانة حب الاستشراف، وحب من نوع آخر، إنه حب المخاطرة باقتحام القلاع والقصور، والاقتراب من سادتها ومُلاّكها دون رجفة المستجدين والمحدّثين.
تقدم خطوات واثقة إلى قلاع ومدن جديدة، فسلك الطريق السلطاني الذي يؤدي إلى كل المدن. المدن التي كان أولها مدينة السلط، عاصمة العِلمْ الأردني الأولى، بمدرستها العريقة، التي أخذت على عاتقها مهمة التأسيس على محمل من الجد، فخرّجت أجيالا ممن تصدّروا مشاهد البناء.
عربي في مدرجات كامبردج
نال من الجامعة الاردنية شهاداته الأولى والثانية في اللغة العربية، ومن ثم طار إلى كامبردج البريطانية ليعود إليها بشهادة الدكتوراه في الفلسفة، وظل يراوح ويجرّب الخوض في مهمات أخرى، لكنه واظب على العودة إليها كمن مسّه إدمان هوائها المُعبّق برائحة الصنوبر.
عندما كان رئيسا للجامعة الأردنية، وبقوّته الناعمة، أرسى قواعد ودعائم ولاية ضربت على الأيدي المتدخلة في الجامعة. فرسّخ ثوابت تمنع التلاعب في دروس ديمقراطية الجامعة، منح جمعيات تمثيل الطلبة أجواء استقلالية حدّت وحيّدت التدخلات الخارجية في الحرم الجامعي.
تمترس في كلية الآداب ركنه المكين، وظل يعيد على الطلاب دروسه لسنوات، لكن في كل مرة يأخذهم معه إلى مغامرات العقل، والتجذر بإرث يُعيد صناعة الروح من جديد.
إرث إنساني يراوح بين قصيدة مالك بن الرّيب في رثاء نفسه والأيّام لطه حسين. كان يعمّق بذلك لديهم الإحساس بالأسى، وهو يقرأ عليهم صفحات من الأيام، ويتلو عليهم ما جادت به جمهرة شعراء العرب. ولعله يعرج أيضا على تلاوات من كتابه “سنوات الصبر والرضا” ثم يُصلّبُ عودهم بالحديث عن “حماسة الشهداء”.
لم يتوقف هنا، فما زال في جعبته الكثير عن الفتى القتيل طرفة بن العبد، والشنفرة والعبسي عنترة وأبي تمام وأبي الطيب المتنبي. ولهذا الأخير قصته معه، فقد راح معه إلى كافور الإخشيدي، واستمع هناك إلى قصائد المديح واستظهرها، سوى أن خالد الكركي شاعر لم يجد الهجاء قط، فهو يراوح بين المديح والرثاء.
أسئلة العلاقة بين المثقف والسلطة
خالد الكركي عضو في رابطة الكتاب منذ تأسيسها في أواسط الثمانينات من القرن الماضي. كان رئيسها حين ضاقت السلطات ذرعا بما تمثله الرابطة من حالة تنويرية فأغلقتها. ليس في ذلك الأمر من جديد، فهذا طبيعي في الوطن العربي عموما، لكن الغريب هو أن يعيّن رئيس الرابطة المُغلقة خالد الكركي، وزيرا للثقافة بعد ثلاث سنوات، فماذا فعل؟
لم يوافق على المنصب فقط. بل أكثر من ذلك كان أول قراراته إعادة فتح الرابطة، وإلغاء قرار إغلاقها. بهذا السلوك السويّ يجيب الكركي على أسئلة العلاقة بين المثقف والسلطة، ومنها هل احتوته السلطة بتلابيبها أم أنه ثقّف السلطة ونوّرها؟
لقد ظل الكركي على الدوام في حلقة هادئة وسط أمواج الصراع المتلاطمة، كان يسحر الخصوم قبل الحلفاء بكلماته العذبة المترفّعة عن التأجيج والإسراف في اللّجاج.
ربما عرف، وهو يقترب من القلاع والقصور، أن الملوك يحبّون إعطاء الحقوق، ولا يحبّون أن تُنتزع منهم انتزاعا، هادن اللغة فهادنته، هدّأ من روعها فانتثرت بردا وسلاما محققة الممكن بالتراضي.
علاقته الخاصة بصاحب القلعة
منذ دخول الفتى الجنوبي إلى الكرك القلعة، وهاجس معرفة ما خلف الأسوار يؤرّقه، لذلك لم يمانع أن يغادر مدرجات الجامعة مرة إلى البلاط الملكي كرئيس للديوان. خصوصا وأن سيد ذلك البلاط، الملك الراحل الحسين بن طلال، كان من عشّاق الحرف العربي. ويكفي أن نتذكر حركته حين ينتثر أمامه عقد اللغة، ولنا أن نتخيل أيّ خدر انتشر في أطراف رأسه فأراحه إلى المقعد وهو يستمع الى الشاعر محمد مهدي الجواهري يتلو قصيدته التي أسعفه بها فمه ليردّ جميلا بين يدي صاحب الجميل. وأيّ طرب داخَلَهُ وهو يرتشف أبيات الجواهري المادحة تلك، خصوصا عندما داهمهُ ببيت “يا ابن الذين تنزّلت ببيوتهم/ سورُ الكتاب ورُتّلتْ ترتيلا”.
كل هذا الشحن العاطفي جرى للملك والكركي جالس يزهو إلى جواره، فيرمقه الملك بابتسامات الامتنان المطوية على الكثير من المعاني.
ولا بد أن حرف الكركي قد سحر الملك الراحل أيضا، وبقليل من العناء سنكتشف ذلك إن نحن عدنا الى خطاباته إبان العدوان الكوني على العراق عام 1990، تحديدا في خطاب الرجال الرجال.
على الأغلب، كانت العلاقة ثقافية، ليس من مميزاتها البيروقراطية، وكان يشوبها التحرر من البرتوكولات، فالملك الراحل كان مسحورا بالكَلِم، بل إنه كان يقرأ كتبا وقصصا يقدّمها له رئيس ديوانه.
كدأبه، في كل مرة، كان يعود إلى أدراج الجامعة محاضرا، متخلّصا من عناء المناصب الحكومية التنفيذية، فهو لا يجيد ألاعيب السياسة الممعنة في صناعة المؤامرات، ولا يمتلك مهارات اختراق مافيات الوزارات التي صنعتها الأجندات المختلفة والمتخلفة، ولم يُجد غسل أوساخ السياسيين في الصحافة.
كل مرة يرجع، وفي النفس تجول الآلام ذاتها، كتلك التي جالت في نفس أبي ذرٍّ وهو يغادر دمشق، فيتأكد مجددا أنه لا يشفي الروح إلا ذاك البريق اللامع المتألق في عيون تلاميذه وهم يصيخون إليه أسماعهم الشغوفة.
هذا القليل الذي سيدوم خيرا في الأرض، خير من ضجيج السياسة الماشية أمام وخلف الدبابات والطائرات السوداء. من هنا بدأ، ومن هنا تشكّل، وهنا سيعود إلى روحه دائما.
سادن مجمع اللغة
يحلو للعامة ولأصحاب مآرب التغريب مسخرة مجمعات اللغة العربية بقصة “شاطر ومشطور وما بينهما كامخ”، لكن الكركي يستطيع بهيبته ومكانته العلمية أن يمحو هذا الانطباع، فهو يظهرُ في مختبر اللغة ومعملها كما حكيم يحمل مبضعه، فيجري عمليات جراحية دقيقة للمصطلحات ليمنحها روحا جديدة.
ما زال يُمنّي النفس أن تكون معشوقته ظاهرة على العالمين، كلغة علم وكحاضنة لأعرق حضارات البشرية، فهو لا يتسرّب من بين يديه أو من خلفه شك بحقيقتها كلغة مهيبة، حملت بين ضفافها جمالا لا يضاهيه جمال.
يأخذه الحنين إلى القرن الثاني للهجرة، وإلى الشعر كديوان للعرب، وللعربية كوسيط ناقل بين الحضارات الإنسانية القديمة وهذا الزمان، لولا ما تركته من آثار تلك الحروب المسماة بالصليبية.
هو سادن الآن في مَجمَعِها، وسادر في عشقه لها، لا يخشى في هواه لومة اللائمين، حارس يحارب بمقبس من نور عتمات التيه والتبرج المتسكع في جنبات وعلب ليالي الغربة الباردة، غير آبه بتلك العداوات المستجير أصحابها بما أُسعِفوا من مهارات فكّ الحرف، فتخيّلوا التحضر بالاستسلام الكامل للسحر والبريق الأجنبي.
يخوض حربا غير متهاودة مع أبطال “الديجتال” المتمترسين في التعليم العالي، الميالين للرطن بالمصطلحات الأجنبية، المنبتة جذورهم وهناً، فيميلون حيث مالت الأهواء.
نيسان ـ نشر في 2016/01/16 الساعة 00:00