ما تريده روسيا من جنيف3
نيسان ـ نشر في 2016/01/25 الساعة 00:00
يحاول الأميركيون ألا يظهروا كـ “عامل” في المعادلة السورية. تاركين للروس أن يصولوا ويجولوا في سماء سوريا وترابها. مكررين أنهم مع حل سياسي فقط لما يسمونه الأزمة السورية. لكن الواقع أن واشنطن تعرف تماماً ما تريده من سوريا. بعد أن اتخذتها كمنصة لتغيير الخرائط الاستراتيجية في المنطقة. وربما في ما تسميه خلال عهدي رئيسيها الأخيرين بوش وأوباما “العالم القديم”.
تثبيت الولايات المتحدة للأوضاع في سوريا على ما هي عليه. دون السماح بإحداث انعطافات كبرى. وذلك كان قد بدأ بمنع تسليح المعارضة السورية بأي وسائل للدفاع عن النفس أو مضادات الطيران، ووصل إلى منع الدول الداعمة للانتفاضة السورية من تقديم ذلك الدعم بذريعة الشك في وصوله إلى الإرهابيين حتى ولو كان دعماً إنسانياً وإغاثياً. والسكوت على مختلف الجرائم التي ارتكبها بشار الأسد في سوريا. ورغم وصول ملفات تلك الجرائم ووثائقها إلى ما تحت قبة الكونغرس. إلا أن هذا لم يغير شيئاً في مضي واشنطن في مسار فتح الباب أمام المزيد من التدخل الإيراني والروسي العسكري في سوريا.
في العالم القديم. آوراسيا والشرق العربي وتعقيداته وشمال إفريقيا. ظهرت ارتدادات عنيفة لبؤرة التوتر التي تحولت إليها سوريا. فأصبح لداعش فروع من إندونيسيا إلى الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة، إلى بلدان إفريقيا ليبيا ومصر وتونس وفي العمق الإفريقي الأسود.
أوروبا تتغير بفعل سيول اللاجئين، وتبدأ مشاريعها المتقدمة المشتركة بالتفكك. أقل ما ينظر إليه هنا، هو مشروع الاتحاد الأوروبي ذاته. كوحدة سياسية واقتصادية وسكانية متطورة ومفتوحة، يعاد النظر فيها اليوم. بالإضافة إلى التغيير في التكوين الاجتماعي وخلط الهويات وإيقاظ العنصريات القديمة وحقن اليمين السياسي بالمزيد من الطاقة ليعود إلى الوجودة.
العلاقات بين الدول العربية ومراكز القوى في “العالم القديم” يعاد تشكيلها من جديد. وتزامناً مع الدعم غير المحدود الذي تقدمه روسيا إلى نظام بشار الأسد. تتوثق صلة دول الخليج التي تدعم المعارضة السورية، مع موسكو بوتين. ويجري توقيع العشرات من الاتفاقيات الاستراتيجية ما بين الرياض والدوحة والإمارات وعاصمة الشمال الباردة.
لكن جميع التخمينات التي تحدثت عن تغيير روسي بسبب تلك الاتفاقيات وذلك التقارب العربي الروسي باءت بالخيبة لأن روسيا لم تغير موقفها، بل طورته إلى احتلال مباشر لسوريا، دون أن يغيب عن الذهن حلول روسيا محل إيران في المشهد السوري، وإن كان ذلك يجري ببطء شديد.
تصرّ روسيا على عقد مباحثات جنيف 3 ما بين الهيئة العليا السورية المعارضة للتفاوض من جهة، ووفد نظام الأسد من جهة أخرى. وتصر في الوقت ذاته، على تحقيق منجز عسكري يضاف إلى رصيد الأسد على الأرض، كي يكون في جعبته عشية المفاوضات. لكنه أيضاً تريد التدخل في الوفد السوري المعارض بفرض المعارضة التي ترى أنها لها الحق في الحديث عن مستقبل سوريا. مثل حزب الاتحاد الكردي الذي شكّل بالتعاون مع جيش ومخابرات الأسد، ميليشيات ما يعرف بقوات الحماية الكردية. وأعلن إدارة ذاتية شمال سوريا. وهو حزب يتبع قراره السياسي لجبل قنديل حيث قيادة حزب العمال الكردستاني المدعومة من إيران.
كذلك الأمر في ما يخص شخصيات مثل قدري جميل وهيثم مناع رئيس ما يعرف بمجلس سوريا الديمقراطي، ومجموعة من المعارضين الذين صرحت موسكو مرات عدة، أنها يمكن أن تثق بهم وبرؤيتهم في المفاوضات.
إيران الخاسر القادم
ما تغير من جنيف2 إلى جنيف3 يتصل بتغير التموضع الروسي في الشرق. وتوغلها أكثر في ملفاته، وارتباطها المباشر كقوة عسكرية ينعكس عليها أي تطور أو تدهور في الأوضاع بشكل فوري، وهذا ما لم يكن عليه الحال أيام جنيف2، ولن تكون روسيا غير مكترثة بنتائج جنيف3. يهمها أن تنجح المفاوضات، وهي تدرك أنها لا تستطيع فرض حل سياسي كما فرضت حلاً عسكرياً في بعض المناطق لأن النزاع سيستمر في حال تفجّر جنيف3، فما الذي تريده بالضبط من جنيف3؟
تريد موسكو الظفر بعقد اتفاقية سلام في سوريا، ترضي جميع الأطراف. وأصغر موظف في الخارجية الروسية يعرف تماماً أنه لا مستقبل لبشار الأسد في سوريا. لكنهم يصرون على الظهور كداعمين له. مواصلين ابتلاعه وابتلاع الإيرانيين معه جيوبولوتيكيا. إيران لم تخف انزعاجها من هذا. وقد بدأت تتالى التصريحات الإيرانية الغاضبة من تصاعد الدور الروسي في سوريا، ولم يكن آخرها ما سمّي بتشكيك الدوائر المحافظة الإيرانية بجدوى التدخل الروسي في سوريا وتداعياته على النفوذ الإيراني. كما جاء في موقع “فردا” الإيراني الذي استعمل تعبير “الاحتلال الروسي لسوريا”. الذي بلغ به الأمر حد وصف العمليات العسكرية الروسية بأنها ” استعمار جديد من قبل روسيا، تحت غطاء محاربة تنظيم داعش”. مبدياً انزعاج إيران من التكتم الروسي حول مشروع القاعدة الروسية شمال سوريا. دون أن يوفّر بشار الاسد من انتقاداته معتبراً أن هناك تواطأً ما ما بين القيادة الروسية والقيادة السورية. بعد أن أصبح ذلك التواطؤ خطراً على الأمن الإيراني ذاته. بالسماح للأكراد بالتنسيق مع الاميركيين لتشكيل جيش سوريا الديمقراطية مما يمكن أن يشجع أكراد إيران على القيام بالدور ذاته وهي التي يبلغ فيها عدد المواطنين الإيرانيين الأكراد قرابة العشرة ملايين.
الهبوط الآمن
روسيا إذاً معنية تماماً بجنيف3. وهذا يعني أنها ستكون حريصة على ألا تنفر وتتخوف الهيئة العليا للمفاوضات ممثلة بفريقها الذي تشكل في الرياض من الجلوس على طاولة التفاوض في جنيف.
الحلول الروسي الصيني في المنطقة محل الأميركيين بات اليوم أمراً واقعاً. بمراجعة لجردة الاتفاقيات الاستراتجيية للبلدين في الشرق كله. الخليج وسوريا وحتى جيوبتي البلد الاستراتيجي في البحر الأحمر. وهذا لن يكون على حساب الحلفاء العرب. وما سيجري من تحولات في المواقف في الفترة المقبلة، سيكون مثيراً ليس فقط للأسد والإيرانيين. بل حتى لتركيبة المنطقة في ظل الوكيل الأميركي الجديد (الروسي هذه المرة). المتحكم بالعالم القديم من غاز التدفئة والصناعة في أوروبا إلى الأمن الإقليمي الأوراسي وصولاً إلى أمن إسرائيل والخليج.
ولن يكون من ضمن تلك المحددات، تغيير خرائط الشرق من جديد. وتكسير الحدود. لأن هذا لن يتوقف بمجرد إقراره مرة واحدة. لكن الجميع يعلم أن العيش المشترك لم يعد ممكناً كما كان قبل العام 2011. وهذا سيعني تغييرات داخل الدولة الواحدة. وربما تكوينات جديدة تواصل صراعاتها، بطريقة أو بأخرى.
أما “الهبوط الآمن” الذي تحدثت عنه واشنطن بداية الربيع العربي وانفجار الثورة في سوريا. فهو ما ستحاول موسكو تطبيقه. ليس لإعادة إنتاج نظام الأسد. ولكن لتشكيل نظام يضمن الاستقرار في المنطقة. لأن نظام الأسد فقد دوره أصلاً. وحتى لو عاد إلى الحياة من جديد، فهو غير قادر على القيام بما كان يقوم به خلال خمسين سنة مضت. تدخل فيها كشرطي خفي في المنطقة. يدمّر منظمة التحرير الفلسطينية وينصّب الرؤساء في قبرص ويعبث بملفات المعارضات العربية والإقليمية التي احتضنها في دمشق. نظام الأسد انتهى عملياً وما تبقى هو صناعة نظام جديد. تحرص موسكو على أن تكوينه من خلال الإِشراف المباشر على من سيتفاوض وعلى ماذا سيتفاوض وكذلك على رسم نتائج المفاوضات سلفاً.
كلنا شركاء
نيسان ـ نشر في 2016/01/25 الساعة 00:00