مستقبل لا نراه ويأس نحذر منه
نيسان ـ نشر في 2016/01/26 الساعة 00:00
.
من المفارقات أنه بعد مضى خمس سنوات على ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، فإننا لم نعرف بعد إلى أين نحن ذاهبون، ولا ما هى أولويات التحديات التى نحن مقبلون عليها فى العام الجديد.
(١)
طوال الأسبوع الماضى كان مؤتمر معهد أبحاث الأمن القومى فى إسرائيل يحاول فى جلسات علنية الإجابة على السؤال: ما هى التحديات التى تواجه الدولة العبرية فى العام الجديد الذى تلوح فيه مؤشرات «تغيير قواعد اللعبة؟» ــ (العبارة الأخيرة كانت عنوان دورة المؤتمر)أثارت الانتباه فى مناقشات الاثنين (١٨/١) مداخلة رئيس أركان الجيش غادى ايزنكوت، الذى قدم لأول مرة طرحا مخالفا للموقف الرسمى للحكومة إزاء الاتفاق النووى مع إيران. إذ هون من شأن الاتفاق فى الأجل المنظور. وكان من رأيه أن طهران تتجه للالتزام به. وأن موقفها الاستراتيجى لا يمضى باتجاه تطوير سلاح نووى. وإن لم تتنازل عن تطلعاتها كى تصبح دولة عظمى اقليميا. فى اليوم التالى انتقد أطروحته نائب مدير معهد أبحاث الأمن القومى الكولونيل أودى ديكل حين تحدث عن الارتباك فى الاتفاق على التحدى الأكبر لإسرائيل. دلل على ذلك بالإشارة إلى أن الجنرال ايزنكوت هوَن من شأن خطر إيران وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)واعتبر أن حزب الله هو الطرف الوحيد الذى يشكل تهديدا خطيرا لأمن إسرائيل. وفى الوقت ذاته ذكر أن التحدى الاستراتيجى والقضية المركزية الأكبر التى تهدد إسرائيل تتمثل فى الجمود السياسى والفشل فى التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية وأوضاع الأراضى المحتلة. وخلص ديكل إلى أن رؤية رئيس الأركان انطلقت من تقديره للتحدى العسكرى. بالمقابل فإن آخرين مثل رئيس المعهد الجنرال عاموس يادلين ذكر أن الخطر الأكبر يكمن عمليا فى استمرار المسعى الإيرانى لإقامة محور «متطرف» يبدأ فى إيران ويمر عبر العراق وسوريا وصولا إلى حزب الله فى لبنان.
الرئيس الإسرائيلى روبى ريفلين فى خطابه إلى المؤتمر يوم الاثنين اعتبر أن الخطر الأكبر على إسرائيل يتمثل فى تغلغل تنظيم داعش فى صفوف الفلسطينيين واستغلال أوضاع الفئات المهمشة منهم فى تجنيدهم وحثهم على مهاجمة الدولة. وكان ايزنكوت وقبله وزير الأمن الإسرائيلى موشيه يعلون اعتبرا داعش ظاهرة عابرة. وأضاف ايزنكوت أن الخطوة الأولى فى تصفية وجود داعش تتمثل فى القضاء على فرعها فيما سمى «ولاية سيناء».
اشتركت فى المناقشة وزيرة الخارجية السابقة تسيبى ليفنى التى انتقدت سياسة الحكومة قائلة إنها باسم الأمن تبرر كل شىء وتخاطر بكل شىء، وذكرت أنها تواصل بناء المستوطنات فى مواقع نائية لن تكون جزءا من إسرائيل فى أى تسوية، ولكنها تستهدف بذلك بقاء اليمين فى السلطة وتحديدا استمرار نتنياهو فى موقعه كرئيس للحكومة. تحدث أيضا وزير الدفاع الأسبق موشيه ارتس الذى شكك فى إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين فى الوقت الراهن. لأن الرئيس أبومازن لا يقبل وإذا قبل فإنه لا يستطيع تسويق الاتفاق. أما مفاجأة المؤتمر فكانت كلمة وزير التعليم وزعيم «البيت اليهودى» نفتالى بينيت الذى قال إن إسرائيل فقدت عنصر المبادرة فى السنوات الأخيرة وباتت تنجر وراء الأحداث والأطراف المحيطة بها. ذلك أنها رغم تطورها الفكرى وتقدمها العسكرى تعانى من تحجر العقل السياسى. فهى لاتزال تستعد لحروب الماضى بينما يستعد أعداؤها للحروب المقبلة، ويواصل الجيران تطوير أنفسهم. ومما ذكره فى هذا الصدد أن طائرات «إف ٣٥» المتطورة لم تعد قادرة على إخضاع ٥٠ مقاتلا من حماس.
(٢)
هذه اللقطات من المؤتمر الإسرائيلى عرضها تقرير نشرته صحيفة العربى «الجديد» فى ٢٠/١ أعدته مراسلتها فى الأرض المحتلة. وهى تقدم نموذجا لتشكيل الرؤية فى بلد يعيش لحظة نادرة من الاسترخاء الاستراتيجى. إذ اطمأن إلى أن جريمته فى فلسطين لم تعد تشغل العالم العربى، الذى بات غارقا فى مشاكله إلى حد الانكفاء على ذاته مع فقدان بوصلة النظر إلى المستقبل. وهو ما يسوغ لنا أن نقول بأن أنظمة العالم العربى أصبحت تحارب فى الداخل بأكثر مما تحارب فى الخارج. كما أنها أصبحت مشغولة بالحاضر بأكثر من انشغالها بالمستقبل. ورغم أن تحديات كبرى أصبحت تتزاحم فى الأفق، بحيث ما عادت تخطئها عين، فإننا لا نعرف أن الموضوع طرح للمناقشة على مستوى المسئولين العرب بحيث سمعت فيه مختلف الآراء وطرحت فيه التصورات والحلول. وهو ما يجعلنا نقرر بأسى شديد أن العالم العربى لم يعد له عقل يديره ويرشده، الأمر الذى جعل مصائره تصنع فى خارجه. تشهد بذلك الجهود التى تبذلها القوى الكبرى لحل المشكلات المعقدة فى كل من ليبيا وسوريا واليمن.
عبرت عن ذلك صحيفة القدس العربى حين ذكر فى ١٨/١ أن اللاعبين فى المنطقة الآن هم: الإسرائيليون والروس والأمريكان والإيرانيون. ولم يكن ذلك تقديرا مبالغا فيه لأن القامات والأوزان العربية تراجعت بحيث أصبحت قاصرة عن الإسهام بشكل فاعل فى صناعة المصير.
لقد شاءت المقادير أن يمر العالم العربى بأسوأ مراحله السياسية وأن يواجه فى الوقت ذاته أكبر تحدياته المصيرية. إزاء ذلك فإنه لم يعد يستحق فقط أن يوصف بأنه العربى المريض، على غرار وصف رجل أوروبا المريض الذى أطلق على الدولة العثمانية فى زمن انحطاطها وقبل اندثارها، ولكنه أيضا صار المبتلى والممتحن. فالحروب الأهلية صارت سمة للدولة العربية فى مشرقها ومغربها، والذين نجوا من الحروب الأهلية روعهم انهيار أسعار النفط وبات بعضهم يتحدث الآن عن ترتيبات ما بعد البرميل الأخير. وفى هذه الأجواء انتعشت أحلام إسرائيل الاستيطانية، ودخلت إيران إلى الساحة متحللة من قيود الحظر، وقد مدت أذرعها فى أربعة أقطار عربية وقرأنا لأحد الكتاب الإسرائيليين قوله إن حضورها فى اليمن منذ عام ٢٠١٥ يعادل الحضور المصرى هناك فى عام ١٩٦٢.
يقبل عرب ٢٠١٦ على العام الجديد وبعضهم ذاهل ومصدوم من جراء انهيار أسعار النفط، والبعض الآخر قلق من تمدد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)أو متحسب للعمليات الإرهابية والغارات الروسية. وحائر فى كيفية التعامل مع إيران وما إذا كان ذلك التعامل يواجه التطلعات التوسعية، أم التغول المذهبى أم النزعات الفارسية. يحدث ذلك فى حين يستمر نزيف الدم ويتواصل قتل البشر فى سوريا والعراق واليمن وليبيا، وتتفاعل عوامل الغليان والانفجار فى بقية أنحاء الوطن الكبير.
(٣)
المشهد فى مصر ليس بعيدا عن تلك الأجواء، ولكنه جزء منها وإن اختلفت العناوين. ذلك أننى لا أعرف أن جهة ما فى مصر أجرت حوارا مفتوحا مع الخبراء وأهل الاختصاص حول التحديات التى يواجهها البلد فى العام الجديد. ولا يعالج تلك الثغرة أن تكون تلك المناقشات قد جرت فى غرف مغلقة وبين نفر من أهل الثقة أو الأجهزة الأمنية. ولذلك يظل نظرنا إلى الموضوع فى حدود التخمين والاجتهاد. فى هذا الصدد أزعم أن التحدى الأكبر يتمثل فى سد النهضة الإثيوبى الذى يفترض أن ينتهى بناؤه فى العام القادم. ذلك أنه يثير مخاوف مكتومة تتجاوز بكثير الآثار المترتبة على انهيار أسعار النفط. فالسد يهدد الوجود أما هبوط أسعار النفط فإنه يهدد الرفاه. فضلا عن أن آثاره ليست عاجلة. فى ذات الوقت فإن خطط التقشف المطروحة فى دول الخليج لها انعكاساتها المباشرة على المعونات التى تقدم إلى مصر، المعول عليها فى استقرار الأوضاع الاقتصادية. إضافة إلى أثرها على مصائر آلاف المصريين العاملين فى دول الخليج الذين أصبحوا مهددين بالرحيل فى أى وقت. وما عاد سرا أن مستقبل الوضع الاقتصادى الذى يلوح فيه شبح الأزمة لا يؤرق الإدارة السياسية المصرية فحسب، لكن له صداه المحسوس أيضا فى رسائل بعض الدول الغربية والولايات المتحدة فى المقدمة منها. وهو ما يعنى أن مصر فى العام الجديد ستظل مستقرة للتعامل مع الأمن المائى، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية فضلا عن الأزمة السياسية المتمثلة فى الانقسام الأهلى وانفراط عقد القوى الوطنية. ولئن تراجعت العمليات الإرهابية إلى حد كبير. وهو ما عبر عنه الرئيس عبدالفتاح السيسى حين أعلن أن مصر تحارب الإرهاب فى واحد بالمائة من مساحة شبه جزيرة سيناء، إلا أن استمرار السياسة الأمنية يظل مصدرا آخرا للتوتر يؤثر على الاستقرار المنشود. وهو أكثر ما يتجلى فى انتهاكات حقوق الإنسان التى أصبحت وصمة يتسع نطاقها حينا بعد حين. وقد كان الظن أن السياسة سيرد لها الاعتبار فى الآونة الأخيرة، إلا أن التدخلات الأمنية فى الانتخابات التشريعية الأخيرة والصورة التى تابعناها فى أداء مجلس النواب بددت ذلك الأمل، حتى عدنا إلى المراهنة على المستقبل البعيد وليس القريب.
(٤)
يبدو كئيبا هذا العام الجديد. تدل على ذلك القرائن التى أشرت إلى بعضها، وغيرها كثيرا مما لا يتسع له المقام أو المجال. قد نختلف فى تقدير نسبة الكآبة فى الكوب، سواء مثلت ربعه أو نصفه أو غير ذلك، إلا أنها موجودة ولا نستطيع أن نتجاهلها. لكن أخوف ما أخافه أن يدفعنا ذلك إلى اليأس. والانضمام إلى حملة ملاعنة الربيع العربى وسنينه أو الحنين إلى زمن تزوير الانتخابات والديكتاتورية المقنعة والفساد المستور.
استوقفتنى فى هذا الصدد مقالة نشرتها صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية فى ١٤/١ كتبها فرانسوا هيزبورج أحد خبراء الشئون الاستراتيجية تطرق فيها إلى الأوضاع السائدة فى العالم العربى فى الوقت الراهن وقارنها بالخبرة التاريخية الأوروبية. إذ تحدث عما شهدته أوروبا خلال حرب الثلاثين عاما فى بداية القرن السابع عشر (بين عامى ١٦١٨ و١٦٤٨)التى أشاعت الاقتتال والخراب والمجاعات فى أوروبا. إذ بدأت حربا بين البروتستانت والكاثوليك (السنة والشيعة؟)وانتهت صراعا سياسيا على الحدود والنفوذ اشترك فيه الفرنسيون والألمان والإيطاليون والسويديون والإسبان وغيرهم (هبط خلالها سكان ألمانيا من عشرين مليونا إلى ثلاثة عشر مليونا ونصف المليون)ـ وبعدما غرقت أوروبا فى الدماء خرجت من أنقاض الحرب الأمَتان الألمانية والفرنسية.
أشار الكاتب إلى أن الرياح التى هبت على العالم العربى فى عام ٢٠١١ كانت متوقعة لأن التقارير التى تحدثت عن التنمية فيه والفجوة المتسعة بينه وبين العالم الخارجى على كل المستويات بينت أن أوضاعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا يمكن أن تستمر على حالها. وهو ما يهدم مزاعم البعض الذين تبنوا سيناريو «المؤامرة» لتشويه انتفاضة العالم العربى خصوصا فى مصر.
لقد حرص الكاتب على أن يحذر من التعجل فى تقييم الوضع فى العالم العربى تأثرا بالخيبات والصراعات التى عانت منها بعض أقطاره. ودعا إلى قراءة المشهد العربى من خلال استدعاء تلك الخبرة الأوروبية التى شهدتها القارة فى القرن السابع عشر، وهو ما أؤيده وأشدد عليه، لكننى تمنيت ألا نستنسخ فظائع وقائع تلك الحرب، كما أننى استشعرت استياء من مدة الثلاثين عاما، لأن أمثالى لن يقدر لهم أن يشهدوا بزوغ حلم الأحياء. وأرجو أن يلمس الأحفاد بعض ثماره.
الشروق
نيسان ـ نشر في 2016/01/26 الساعة 00:00