بدوي على أبواب المدينة
نيسان ـ نشر في 2016/02/01 الساعة 00:00
محمد قبيلات..
تمهيد: هنا تجري محاولة ابتكار وتدبيج نص من جنس أدبي مؤلل يتساوق وقانون المطبوعات والنشر.
منذ أيام الطفولة والفتى أبن القرية النائية، يخالجه الشغف بمراقبة الآليات العملاقة، فكان عندما يصطحبه أحد من أفراد عائلته الكبار في مشوار الى المدينة، يتلكأ كلما صادف أن مرّت بهم الطريق من جانب "ورشة" بناء، مسترقا النظر الى الجرافات تًعّبُ التراب بأفواهها الشرهة، وترفعه عاليا لتلقيه على ظهور القلابات، فتأخذه هذه الأخيرة بدورها الى أماكن بعيدة.
كان يأخذه الشغف إلى حد أن ألّفَ نكتة عن عَجل "مدحلة" انفلت من عقاله و"براغيه"، وظل يدحل ويدحل ويدحل.... إلى حيث لا ينتهي من سرد قصة الدحل اللانهائي تلك إلا بهجوم أقرانه عليه لإسكات صوته، منخرطين جميعا بإعياء تسببت به الضحكات الهستيرية.
لكن، من أين لأحد من هؤلاء الأتراب ليعلم أنه وهو المتسلحة عيناه ببريقٍ بدويِ خبيث، سيبقى مواصلا هذيانه بالدحل، حتى يُجلب مخفورا بتهمة تنفيس بالون؟
الفتى يستغرق في تأمل ذلك الحشد المؤلل المتمادي بنهش الجبل الذي لم تهزه الرياح منذ الأزل، يسرح بخياله الى البعيد، ولا يستفيق من ذلك إلا حين ينهره شقيقه الأكبر، حاثا إياه غذ الخطى، خشية أن يضيّع عليهما الوقت، فيتأخران عن موعد انطلاقة باص القرية الوحيد.
فيصدع ظاهريا للأوامر، لكن ذهنه الفتي النشط، يظل مشغولا بما تفعله تلك الجرافات، ويستغرقه تفكير تصنيفي بناء، مُشرع على أبواب التخريب والتعمير والبناء والهدم.
لا يلبث، وهو في حالة من هيامه الخاص تلك، إلا أن يشده شكل مستوحى من كائن ديناصوري خرافي، تلك "الماكينة" التي لها ذراع طويلة، تستمد مرونتها من مفاصل صناعية كبيرة، وتنتهي بفم كامش على شكل جيبين صغيرين، لكل منهما أسنان مستقيمة ممدودة ومنسقان ليحكما الانطباق، ما يفتآن يقضمان الإسفلت لفتح قناة عميقة تساير الشارع كجرح هائل مستطيل.
ما زاد حيرة الفتى البدوي، أن الشرطي الساهر على أمن الوطن، ظل متسربلا الحياد، وعلى مرأى منه يتم تخريب الطريق بينما هو يتلهى بصفارة تنظم عبور السيارات القليلة أصلا !
وتذكر كيف أن هذه المجسمات، العملاقة بحديدها، راحت تعمل لأيام في ثغر قرب قريته، وكيف أن المدحلة بعجلاتها الحديدية الضخمة، راحت " تسمهد" الأرض فتجعلها كما سطح زجاجي صقيل، وضجّ حينها خياله الغض بأسئلة من نوع: ما الذي كانت تمهد له؟ وأي دَحَلانٍ سيجري من بعد على هذا الطريق؟
كان ذلك في الصغر، حينها لم يكن يعلم أن شغفه بمراقبة المداحل والجرافات سيودي به الى أروقةٍ وأَبْهاءٍ؛ سيصدع فيها لتهمٍ مجحفة، تطمح لمحاسبته على مجرد أنه أراد أن يفهم السر الكامن وراء تعلية شأن هذه المعدات "المفلطحة"، وسر سَبغِها بحصانة ووقار زائف، يُجمّل "صنائعها".
كبر الفتى، وكبر في عينيه ذيّاك البريق الخبيث، لكنه لم يتعلم فن التوريات، ولطالما أماط ألثمَةً كشفت الواقفين وراء تلك المجنزرات بأعجالها المدمرة، المتسلحة بأشداقها الشرهة، عرف أنهم جميعا مع حرية سرقة التعمير والبناء، ولا يستسيغون حرية التعبير، عرف منهم رجلا كبيرا، كبيرا بحجم "مدحلة"، يصول متدحرجا ويجول، يزبد ويربد ويزمجر، مستندا الى تلك الأفواه المشرعة بأسنانها الحديدية، يطمح لـ "سهمدة" البلد، تحدوه شعارات من نوع : من أجل وطن أسهل للاستثمار، و"دعه يعمل دعه يمر".
واكتشف أيضا، أن هذا المتكور في أكبر كتلة وأصغر حجم، شريك للديناصورات، وهو من ركاب الباص السريع، الذاهبة طريقه الى سكن كريم، وليس من ركاب الباص البطيء، الذي يحدب بمعاناة على طريق قريته النائية، النائية عن حيوات "البزنس" و "مقاولات الباطن" و "الكموشن"، قريته التي كانت موغلة بصدقها ونقائها.
ما العمل؟؟؟
ليس من طريق إلا الإنتقام بالحيلة.
إذاَ هي الخطة "ب" : التنفيس هو الحل.
هذا ما تفتقت عنه وبه ذهنية الفتى المفعمة باختلاجات التعبير والتعمير والهدم والتخزيق، اقترب من الرجل المدحلة.. فصعقته المفاجأة؛ إذ لم يجده ألا مُستوعَباَ منفوخا بهواء مضغوط، لا يحتاج لأكثر من "شكة" دبوس صغير، ويتحول هباء.
نيسان ـ نشر في 2016/02/01 الساعة 00:00