هيكل الذي لم يؤمن سوى بهيكل
نيسان ـ نشر في 2016/02/23 الساعة 00:00
مات محمد حسنين هيكل!
الصحافي، الكاتب، المؤرخ، السياسي، والمحاضر، كل هؤلاء ماتوا في يوم واحد، ولكن محمد حسنين هيكل تغيّر كثيراً مع حرصه ونجاحه ودهائه أن تبقى صورته هي صورة هرم خوفو الذي لا يتغير.
بدأ هيكل حياته الصحافية عاملاً في الصحافة الإنكليزية الصادرة في مصر، فلغته وكتاباته الإنكليزية راقية ومتينة كما كتاباته بالعربية. وكان الفضل لمصطفى وعلي امين اللذين اكتشفاه وأقنعاه بأن يتخلّى عن اللغة الإنكليزية التي ليس لها مستقبل صحافي في مصر والتفرغ الى الصحافة العربية، وفتح له الأخوان علي ومصطفى أمين أبواب امبراطورية أخبار اليوم، ومن هناك انطلق.
ولو لم يتعرف الى عبد الناصر ويصبح شريكه الأمين لكان خبر وفاته ينشر في صفحة الكلمات المتقاطعة، ولكنه ارتبط به بعلاقة عمل قوية. لم يكن هيكل مستشار عبد الناصر، لأن نظامه العسكري لا يقبل المستشارين، بل كان لديه موظفون ينفذون التعليمات والسياسة التي يرسمها وحده!
كان عبد الناصر في حاجة الى هيكل، فكما قال لنا الدكتور عصمت عبد المجيد أن عبد الناصر كان في حاجة الى شخص يقرأ كل الكتب والصحف المهمة التي تصدر في العالم في يوم واحد، ثم بعد قراءة كل ذلك يعرضه على عبد الناصر في نصف ساعة الى ساعة.
ولم يكن ممكناً لعبد الناصر أن يجد بسهولة مثل هذا الرجل، فوجده في هيكل الذي كان شديد الذكاء، وبحكم قدرته على سرعة القراءة في اللغتين العربية والإنكليزية كان نقداً نادراً فتعامل مع عبد الناصر من الند للند في زمن كان عبد الناصر اقرب ما يكون الى الألوهية! وفتحت العلاقة آفاقاً واسعة استفاد منها الاثنان.
مقابلاته مع كل حكام العالم وغير الحكام، ومنهم آينشتاين، ثم نهرو وتيتو وملك اسبانيا ثم... كلها من الإنتاج الصحافي. ومؤلفاته التي فيها اسرار لأنه كان خزانة المعلومات ايام حكم عبد الناصر هي تاريخ...
كان محمد حسنين هيكل مهتماً بالسلطة، لكنه رفض أي منصب وزاري ايام عبد الناصر وايام السادات، كان يدرك بذكائه الحاد أن الوزراء في هذه الأنظمة ليسوا سوى موظفين، فقد عين عبد الناصر متخرّجَين اثنين من هارفرد حازوا المرتبة الأولى، ولما انعقد مجلس الوزراء وجاء الوزيران بثياب الرياضة رفع عبد الناصر الجلسة وأمر الوزيرين المتفوقين بتقديم استقالتهما.
هيكل قَبِلَ بصعوبة شديدة وزارة الإعلام في آخر ايام عبد الناصر، ولم يكن وزير اعلام، بل كان ساكناً في عبد الناصر الذي كان ساكناً في هيكل. وكانت ممارسة السلطة هي غاية هيكل الحقيقية والوحيدة، فلما اعتقد أن بإمكانه ان يكون مع انور السادات ما كانه مع عبد الناصر وان يحتاج السادات اليه كما يحتاج هو اليه، ساهم مع السادات في تصفية كل الناصريين، وساعد في عزلهم، ثم رميهم في السجون، وتابع الطريق مع انور السادات ولم يختلف معه على موضوع سفره الى القدس، بل اختلف معه على مكانته هو اي هيكل وعلى علاقته بالسادات،هل يكون مشاركاً في صنع السياسة المصرية ام مستشاراً، كما اراده السادات، وهو لا يبحث عن مكان للمستشار بل عن مكان للشريك في صنع السياسة.
الصورة التي اختارها هيكل لنفسه هي كاتب القومية العربية، ولكن الحقيقة أنه كان كاتب القومية العربية التي هُزِمت سنة 1967". كان شعلة من الذكاء والدهاء والأناقة واللباقة في التصرف وكان يخطط لكل شاردة وواردة وربما هو الذي اختار ان يموت عن عمر 92 سنة، لأنه وجد انه لم يعد له مكان في السياسة.
تعرفت الى هيكل عند الدكتور يحيى الجمل (نائب رئيس وزراء مصر السابق) في القاهرة، وكان الجمل يأتي دائماً الى باريس ونلتقي لقاءات اجتماعية ومهنية. ولاحظ أننا أنشأنا "جميعة اصدقاء المقاصد" فاقترح أن يأتي هيكل ليلقي محاضرة في الجمعية، وحين زرت القاهرة والتقينا نحن الثلاثة، عرضت الفكرة مع مشاركة معلقين فاقترحت الصحافي السابق في جريدة الـ Le Monde والذي أصبح سفيراً لفرنسا هو اريك رولو والوزير اللبناني السابق غسان سلامه، فرحب كل الترحيب بغسان سلامه، وقال عنه: هو مثقف واشياء اخرى، ولكنه رفض مشاركة رولو الذي ولد في مصر قبل ان يعيش في فرنسا، وقال هيكل: دى يهودي، بلاش!
ورحب الرئيس صائب سلام بالفكرة ووعدنا بالحضور الى باريس، وحضر هيكل والقى محاضرته في 7/12/1995 في باريس بدعوة من اصدقاء المقاصد، وكان حديثه عن "أزمة العرب ومستقبلهم" فتحدث عن الأزمة، ولكننا لم نفهم شيئاً عن مستقبلهم كما يراه، ويومها تخلف صائب بك عن حضور المحاضرة، وأصر على أن يكون تمام هو الذي يحضر عن المقاصد، وهكذا كان.
ثم تطورت الصداقة معه الى أن كان لقاء في باريس ضمّنا مع النقيب انطوان قليموس الذي عرض عليه أن يحاضر في نقابة المحامين في بيروت، فرحب بالفكرة، ثم اتصلنا في اليوم التالي لنقترح ان تكون المحاضرة من صوتين هيكل وغسان تويني فرحب ترحيباً كبيراً وعاطفياً بالفكرة ووافق غسان تويني، فكانت محاضرته في نقابة المحامين في بيروت في 28/6/1998 "خطوة ممكنة في مستقبل ممكن" بشّر بها بأن باكستان ستهاجم دول الخليج طمعاً في خيراتها.
وكان هيكل هو هيكل، الذي لا يحب ولا يكره ولا يؤمن سوى بهيكل.
فبعد المحاضرتين اللتين شاركت في اعدادهما اتصل بي عدد كبير من كبار رجالات الخليج، ولاسيما في دبي وقطر وطلبوا مني ان اتصل بهيكل لأسأله إلقاء محاضرة في دبي وفي قطر، فكان جوابه القاطع "الخليج ممنوع ومعدوم" وحاولت جاهداً، ولما يئست فتحت التلفزيون على محطة "الجزيرة" فإذا هيكل يلقي سلسلة محاضرات امتدت سنوات.
وتأكدت من أن الصورة التي كونتها عنه صحيحة: شديد الذكاء والدهاء والثقافة...متيم بهيكل ولا شيء غير ذلك.
عبد الحميد الأحدب- النهار
نيسان ـ نشر في 2016/02/23 الساعة 00:00