أمي.. أريد أن اعترف
نيسان ـ نشر في 2016/04/09 الساعة 00:00
أمي.. لا أذكر أننا احتفلنا بعيد ميلادها يومًا، ولا أعتقد أنها عرفت بوجود عيد للأمهات في هذا العالم ، ولم نشتر لها مكنسة كهربائية، ولا غسالة في مناسبة تخصها إلا بعد أن توفرت الظروف الملائمة، ولما اقتضت الحاجة لذلك.
ولكنَّ أمي كغيرها من الأمهات بقيت محافظة على صمودها، مثابرة على حمايتنا حتى من أنفسنا، تعبر عن ذلك بخوف مقرون ببساطة التعبير، وبحنين مختلط بين دمعة فرح، وابتسامة قريبة من القلب.
نعم أمي علمتنا أن للفراق وللغربة التي صبغت حياتنا باستمرار تفاصيل دقيقة، تجبرنا على العودة إلى البيت البسيط الدافئ.
كانت تلك السنوات التي مضت، وهي تلملم شتات غربتنا، وتحاول من خلالها جاهدة أن تصبر نفسها من خلال الصمت تارة، أو من خلال السكون والاستسلام للواقع الصعب تارة أخرى.
لقد مثلت أمي عنوانًا للصمود والصبر على واقع أجبرها على أن تهرب بنا من محيط امتلأ عن آخره بواقع الفقر، وأحيانًا الجهل، ومن حرب فرضت علينا، فعبرت بنا الجسر متجاهلة أصوات الرصاص، من ثم الاستقرار في الحارة التي جُمعت فيها غربتنا.
وبالرغم من قساوة الظروف، وصعوبة التعبير، ولكنها أمي استمرت في حديثها الذي لم ينقطع عن حلم العودة على الأقل الى المخيم الذي كان مدار الثرثرة اليومية مع نساء الحي من أقرانها اللواتي عشن ذات التجربة، حتى إنني ظننت في إحدى المرات أن حارتنا هي نفس المخيم الذي خرجنا منه ذات مساء أسود مليء بالمطيات.
فقد كانت حارتنا هي القابعة في احد الضواحي المزدحمة جنوب عمان تجمعًا لأشخاص أتوا من كل مكان، وعلى اختلاف مستوياتهم الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن بيئة الحارة التي تشبه إلى حد كبير بيئة المخيم صهرتهم في مجتمع واحد، ذابت فيه تلك الفوارق التي ما عدنا نسمع عنها إلا في المسلسلات المصرية.
أذكر تمامًا مكامن الفرح والحزن في حديثها، فقد كانت تعرف جيدًا أين تتوقف، ومن أين تبدأ، وأين ستوجه سهام نقدها، ولكنها غالبًا ما كانت تستسلم وتستكين أمام الضجيج المصاحب عودة أبي من عمله مرهقًا غاضبًا لأي سبب، مؤثرة السلامة، ولكن ليس الى وقت طويل، فقد كان غضبها كفيلًا بأن يقلب مزاج الجميع، ويحوله إلى حزن من نوع خاص.
أمي كانت كأقرانها من ذلك الجيل الذي عرك التعب جيدًا، وتعامل مع الواقع، وأستطيع وصفها بكل بساطة: خمسة نساء في امرأة واحدة، فقد كانت تمارس كل أنواع العمل المنزلي دون كلل، وإذا تطلب الأمر المساعدة خارج المنزل فهي المبادرة الأولى، ومع كل هذه الضغوط فقد كان الحنان في صورة ثوبها المطرز على اليدين يملأ البيت، ويضفي عليه الكثير من الود والبهجة والفرح.
أمي.. أود أن أعترف بأمر ليس سرًا، ولكني لم أجرؤ على البوح به: «لقد كبرنا نحن كبرنا بالعمر، لكننا لا زلنا صغارًا أمامك، لا زلنا بحاجة لك في كل موقف صعب، قلبك الوحيد من قلوب كل البشر الذي يشعر بنا، وإن لم نصارحه بما فينا.
إليك الرحمة يا أمي، فقد كان صبرك مليئًا بالتفاصيل، وبالوجع وبالحنان، كما كان صمتك مليئًا بالمعاني العميقة».
نيسان ـ نشر في 2016/04/09 الساعة 00:00