أربعُ ساعاتٍ في الحافلةِ
نيسان ـ نشر في 2015/03/31 الساعة 00:00
في الضحوة العالية وقفتُ في انتظار ملء الحافلة، أغراني (الكنترول) وهو ينادي بصوته الأجش :" آخر راكب لعمان "، وعندما صعدت الحافلة ما وجدت أحدا سواي، حجزت مقعدا في السّطة، ولأني أحب قهوة الشارع جلست على مقربة من الحافلة وأخذت أرشف الوقت على مهل، وأتصفح وجوه المارّة، وجوها لفحها القهر والفقر ويبوسُ الأمل، ثلة من الشباب قد حلقوا رؤوسهم وارتدوا القبعات، فتيات حزمن أمتعتهن في حقائب معدة لسفر قصير، سائق الحافلة لا يفتأ يدوس على الوقود ليحث الناس على الركوب، مضت تترى الساعات والحافلة ما تزال جوعى والظهيرة توشك على الحلول، هنا تدخل السائق وأنقذ الموقف مقترحا زيادة الأجرة على الركاب بدلا من المقاعد الفارغة، ووافق الناس على مضض، أخذت الحافلة تبتلع الطريق رويدا رويدا، وكلما ظننا أننا سنقلع نادى الكونترول على السائق ( بالله جيب معك هالدينار) وهو يقصد بذلك الراكب، وأخيرا وبعد أن ملأ السائق جوف الحافلة وأخذ منا الرحل والراحلة أخذت الحافلة تسفك دم الطريق، وتمخر عباب القفار والمفازات، في المقعد المحاذي تجلس فتاة في العشرين من مشمشها كسا وجهها الحياء وعليها مسحة من جمال قروي غير مُعدّ بعناية، وخلفي يجلس فتية طمع كلٌ واحد منهم بلفت انتباه الفتاة إليه فأخرجوا ما لديهم من غث وسمين، ضحكت وحزنت في الآنين معا، ضحكت لأحدهم يصف صديقه بالسمنة فيقول له :" شو مالك صاير زي كعكة الكرشلة لما بنحطها في الشاي بتفشفش " تذكرت لحظتها الجرجاني ونظرية النظم، وآخر يقول لصاحبه : " يا زلمة كلهن لابسات حزق لزق " وهنا تذكرت قانون التتابع اللغوي كـ( حيص بيص و عجر بجر )، وحزنت لأننا نحتاج أن نوقف عجلة الحضارة ونسير ألف عام حتى ندرك ما وصل إليه الآخر، لم نكد نسير خمسين كيلو حتى أخذت الحافلة تتمهل آذانا بالتوقف عند أول استراحة، همهمت ببعض الشتائم التي لم يكد يسمعها سوى الذي يقتسم معي المقعد فبادرني قائلا : " هذا السائق بطلعلوه وجبة غداء مع علبة بيبسي مع باكيت دخان من المطعم حتى يجذب زبون للمحل " لم يكن السائق المتكسّب ليضيّع هذا العرض المغري كفاء راكب رغب في الوصول إلى بيته باكرا ، ركنت رأسي المثقل إلى المقعد في محاولة لاستدراج النوم ولكن هيهات هيهات، أخذت الشمس تخطو نحو المغيب والشباب خارج الحافلة يدخنون بنهم وشراهة ويكأنهم يشحنون أنفسهم بالنوكاتين لقطيعة طويلة، اهتزت الحافلة وإذ بالسائق قد امتطى صهوة المقعد وراح يطالع نفسه في المرآة ويمسّد شاربيه العريضين مما علق بهما من بقايا الدهن، ويمّمنا شطر عمان وفي القلب غصة، أخذت أصوات الخضم والقضم تتعالى من ورائي ومن أمامي وكأني الوحيد الذي لا يملك زاد راحلة ولم يزداد كيل بعير، الشباب غارقون في تناول الشيبس و البسكويت، راعني منظر ذلك الشاب وهو يمصمص في أصابعه بعدما انتهى من افتراس باكيت الشيبس، ويلعق أطراف يده ويدخل السبابة في فمه ليخرج ما علق من أدران الشيبس بين أسنانه ومن ثم يعاود لعقها من جديد وهلم جرا، واستنّ أقرانه بسنته، ومشيناها خطى كتبت علينا، وطويناها ليلة نابغية، حتى إذا وصلنا محطتنا الأخيرة وتنفست الصعداء بعد كل هذا البلاء، وتنسّمت هواء عمان ورحت أبحث عمّن يقلني إلى بيتي، وإذ بسائق تاكسي يتوقف بجانبي قائلا ؛" طالع يا شاب ؟ فقلت له بكل سرور : نعم . ورحت أحدث نفسي بصوت خفيض : يا قومي أليس فيكم رجل رشيد ؟ فتنبه إلي قائلا : شو بدك ؟ قلت له : أريد ضاحية الرشيد.
نيسان ـ نشر في 2015/03/31 الساعة 00:00