باسم عوض الله سياسي أردني يثير أسئلة الشارع والمسؤولين
نيسان ـ نشر في 2016/05/14 الساعة 00:00
محمد قبيلات
من الواضح أن مطبخ السياسة الأردنية الحالي يشعر بالحاجة الماسّة إلى باسم عوض الله، فليس ببعيد ذلك اليوم الذي غادر فيه الوزارة بسبب ضغوط كبيرة من النواب، لتتمّ ترقيته إلى موقع حصين من “نزع الثقة” ليصبح مديرا لمكتب الملك.
نظريا هو في هذا الموقع يتبع رئيس الديوان الملكي، لكن حضوره طغى على غيره، بل تعدى ذلك إلى الدخول في صراعات مع رئيس الوزراء والأركان الأمنية المهمة في الحكم.
هو صراع تقليدي، فمن العادة أن تشوب الحساسيات العلاقة بين رئيس الحكومة والمسؤولين الكبار في الديوان، وهذا ليس سمة خاصة بالإدارة الأردنية، فما زال الصراع قائما بين حُجّاب الملوك وكبار الموظفين منذ نشأة الدولة.
ولا يعيب النظام السياسي الخلاف والاختلاف فيه، بل إن هذا الأمر يُعدّ من مظاهر الصحة، لكن؛ وأثناء اشتعال المعارك، لا بد من اختيار الأسلحة المناسبة، فالأسلحة الرخيصة أشد فتكا، وغالبا ما تطال آثارها التدميرية الأبرياء، فمن المفروض أن يبقى الخلاف قائما على أساس الفرز؛ صح وخطأ، لا على الجهويات أو الانتماءات الإقليمية أو الطائفية.
قادم من عالم الأعمال
عاد عوض الله إلى الأردن في مطلع تسعينات القرن الماضي، وعمل لفترة بسيطة في القطاع الخاص، ومن بعدها دخل العمل العام مستشارا في رئاسة الوزراء، ثم مديرا للدائرة الاقتصادية في الديوان الملكي، ليتسلم بعدها حقيبة وزارة التخطيط زهاء خمس سنوات، فوزارة المالية، ثم رئيسا للديوان الملكي، ومديرا لمكتب الملك.
حسب الأمثلة الدّارجة، فإن أبطال القصص سرعان ما يكبرون، لكن هناك الكثير من التفاصيل التي يغفلها الراوي، ليقفز إلى مفاصل التشويق الأساسية، التي تكفيه الغوص والتيه في التشعّبات، مع أن لها دورا كبيرا في تطوّر وصياغة الأحداث، لكنّ الراوي يصر على الاستحواذ على انتباه الجمهور التام مشدودا إليه من دون أيّ شرود.
الوزير السابق، في أكثر من حكومة أردنية، كان محطّ تركيز الأضواء، بقوة وجاذبية شخصيته وما في جعبته من برامج اقتصادية، ظل مثار خلافات وجدالات واسعة لا تنتهي بخروجه من المناصب والمواقع الحكومية أو بقائه فيها.
كانت أكبر معارك الرجل مع رأس جهاز الأمن الأول، معركة أدخلت البلاد في حالة من الاستقطاب لم يسبق أن حدثت، فلم يستطع معها صاحب القرار أن يتحمّل أعباء الإبقاء عليه في موقعه، فنُحيَّ جانبا عن الأضواء، لكنّه ظل محط اهتمام واسع، فلم تفوّت وسائل الإعلام أيّ فرصة لتدبيج العناوين المثيرة حول نشاطاته مهما قلّت أهميتها، ما أبقى على حالة التجييش ضده قائمة.
مصالح الدولة العليا
ليس خافيًا على أحد حجم المشكلات والتحديات التي تواجه الدولة الأردنية، وليس أقلها التحديات الجيوسياسية، فهناك المديونية والاختلالات الهيكلية في بنية الدولة. لقد قفزت المديونية، في السنوات الأخيرة، لتشكل أكثر من 82 بالمئة من حجم الدخل القومي الإجمالي، ديون كثيرة تتبعها ديون لتخدم أقساطها وفوائدها، ولتسدد الرواتب وما يتبعها للجيش الجرار من القوى العاملة المندمج في القطاع العام، حيث بلغت نسبة العاملين في القطاع العام نحو 42 بالمئة من إجمالي القوى العاملة، نسبة عالية لا تبلغ في الدول المتقدمة حاجز الـ20 بالمئة، بل إنها تصل في الولايات المتحدة الأميركية، مع العلم المسبق بعبثية المقارنة، إلى 5 بالمئة فقط.
الجناح المعارض للسياسات الليبرالية، التي كان من منفذيها وليس رائدها باسم عوض الله، كُثيرون، لكنهم اتفقوا، وإن لم يكونوا على قلب رجل واحد، واجتمعوا على اختلاف مشاربهم ومقاصدهم، فلأول مرة يتفق الإسلاميون واليساريون والقوميون معا على أمر واحد، بل إنهم اصطفوا جميعا خلف الإدارة البيروقراطية المحافظة للإطاحة بذلك التيار.
المشكلة الحقيقية التي تواجه جبهة الطرف العريض الآخر، المضاد لليبرالية الجديدة، أنهم لا يمتلكون أيّ برامج للحلول، فالسقف عندهم لا يتجاوز المعارضة الاجتماعية للحلول المقترحة، من دون تقديم أيّ بدائل.
يكتفي هذا الجناح برفع شعار الحفاظ على الهياكل القديمة فقط، كونهم لا يعرفون الجديدة، كما أن الكثير من أقسامه مستفيد من شكل الإدارة السابق، ولا يستسيغ مرارة العلاجات، فيقف سدًا منيعًا في مواجهة التغيير، واعتباره رجسًا من عمل الشيطان.
أزمة التيار الليبرالي تتمثل أولًا بأنه قادم بحلول تنزع بعض المكتسبات. كما أن هذا التيار يعاني عوار الانتقائية، فهو قادم لإجراء العمليات الجراحية من دون بناء شبكات ائتمان اجتماعية، وجلّ اهتمامه منصبّ على جباية تهدف إلى تسديد أقساط الدين وسد عجز الموازنة، كما أن خطواته لا تتحلى بالشفافية، ما يضع نزاهة إجراءاته على المحك.
عندما قررت مارغريت تاتشر المرأة الحديدية في بريطانيا البدء في برنامج الخصخصة، بغض النظر عن وجاهة الآراء المعارضة لهذه المنهجية، إلاّ أن الخطوات المتّبعة كانت واضحة ومكشوفة للملأ، فلا يتمّ بيع منشآت عامة رابحة لشركات خاصة وهمية، وليس من تبخيس في المال العام، كما تم التصرف بالعوائد على أمثل وجه، ما ساهم في حلّ مشكلات المالية العامة للدولة وأعطى دفعة قوية للقطاع الخاص المحلي.
يرى كثيرون أنه ليس من مشكلة في بيع جزء من الأصول من أجل الحفاظ على مصالح الدولة العليا، لكنه ليس البيع المتساهل، المشوب بالسمسرة لمصلحة وسطاء مفتعلين من قبل القائمين على البيع، فليست المشكلة بما يتحصلون عليه من عمولات فقط، بل المشكلة الكبرى في التواطؤ في بيع هذه الأصول بأسعار بخسة غير عادلة.
ولقد ذُكرَ في مرافعات تدافع عن البيوعات عام 2005 أن المشكلة ليست في بيع عقارات من أجل التخلص من عبء الأقساط وخدمة الدين، فهي تقضم أكثر من ثلث الدخل القومي الإجمالي، وكل ما كان يُخطط لبيعه لا يتجاوز 1 بالمئة من عقارات وأراضي العاصمة عمّان، بينما ملكية الأجانب في باريس ولندن تبلغ نحو 30 بالمئة، بل المشكلة في طريقة البيع، في ظل غياب الشفافية والإجراءات السليمة كما أسلفنا.
عائد من الخليج
غادر عوض الله المواقع الحكومية متجها إلى العمل في دول الخليج العربي، فهو يحمل شهاداته العليا في مجالات الاقتصاد والإدارة من أشهر جامعات لندن والدكتوراه من جامعة جورج تاون الأميركية، إضافة إلى خبرته الدولية التي اكتسبها من العمل في وزارة التخطيط، حيث تُشرف هذه الوزارة على العلاقة مع الجهات الدولية المانحة.
الإعلام السعودي ينشر صورة ضخمة تظهر الملك سلمان بن عبدالعزيز وعلى يمينه العاهل الأردني، وعلى يسار العاهل السعودي جلس باسم عوض الله. لكن وسائل الإعلام الأردنية تغيب تلك الصورة تماما في حديثها عن لقاء الملكين.
بالرغم من ابتعاده الظاهر، فإنه ظل الحاضر الغائب في مجالس عمّان وصالوناتها السياسية التي ما تزال تؤكد أن عوض الله ما زال قريبًا من مطبخ صناعة القرارات. ولم تنقطع التسريبات حول نشاطات الرجل، خصوصًا بعد أن تمّت الإطاحة بخصمه القوي محمد الذهبي.
وبما يمتلك من خبرات وحظوة، لن تصعب عليه طريق العودة، فهو يعرف من أين ومتى يأتي. فهو ليس مثل بعض أعضاء التيارات الليبرالية الذين حاولوا العودة من خلال ركوب موجة المطالبة بالإصلاحات، التي تُثيرها مراكز الدراسات في واشنطن، بل إنه يعود عن طريق التمويل العربي هذه المرة، وها هو يبشر الأردنيين بمليارات من الدعم والاستثمار في مجالات الطاقة.
مبعوث الملك
في ما يشبه الصدمة غير المتوقعة رأى المحافظون قديمهم وجديدهم، أو بصورة أدق الصالونات السياسية تلك، صور عوض الله وهو يجلس الى جانب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز بصفته مبعوثا من قبل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.
لقد حمل عوض الله رسالة من الملك عبدالله الثاني إلى الملك سلمان بن عبدالعزيز، وبمسمّى مبعوث جلالة الملك لدى المملكة العربية السعودية، وهو المسمّى الذي فُصّل على قياسه، أو هكذا تتهامس الصالونات السياسية حانقة.
على حين غرة، وبعد غياب متقطع طويل، ظهر عوض الله من جديد، من دون أن تراعي الشاشات السعودية حساسية المشهد كما راعتها الشاشات الأردنية التي أغفلت أو كادت تغفل “الجلسة”.
ووقع مشهد شبيه مرة أخرى بعد أشهر، عندما نشرت وسائل إعلام سعودية صورة ضخمة تظهر العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وعلى يمينه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وعلى يسار العاهل السعودي جلس عوض الله.
كانت تلك صورة قاسية لم تكشف وسائل الإعلام الأردنية عنها، واكتفت بما أفصحت عنه القنوات الرسمية مغيبة بشكل كامل الكرسي الذي كان على يسار الملك سلمان بن عبدالعزيز.
كما العادة، حضر رئيس الوزراء ووقع محاضر تشكيل صندوق الاستثمار السعودي الأردني، لكن الجميع يعرف أن عوض الله يشرف على الصندوق بالتنسيق مع ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
كُلف بهذه المهمة، على الأغلب، لانسجامه التام مع توجهات الأمير محمد بن سلمان الإصلاحية، التي تم الإعلان عنها قبل أسابيع لتشكل انعطافة كبرى في تاريخ التغيير في المملكة العربية السعودية.
إذن، من التمويلات الدولية إلى التمويلات العربية، خبرات عميقة معمّدة بعلاقات وازنة تُيسّر الأمور، فأيّ عود أقوى؟ خصوصًا ضمن هذه الأجواء.
تأتي هذه العودة لتترافق مع تغييرات دستورية أقرها مجلس النواب ومرّت بالمراحل الدستورية جميعها. أقرها الملك عبدالله الثاني ونُشرت في الجريدة الرسمية. من ضمنها تعديل يسمح لحاملي جنسيات أخرى بتولّي مناصب رفيعة في الدولة، ما فسّره بعض المحللين والناشطين والمعارضين بأنه يصب في مصلحة عوض الله، وأنه سيكون رئيس الوزراء القادم.
لكن عوض الله نفى الأمر، ومازح بعض المتابعين له على مواقع التواصل الاجتماعي قائلًا “أسهل أن أصير رئيسا للوزراء في موزمبيق من أن أصير الرئيس هنا”. ترافق ذلك مع تعيينه في منصب مهمّ في أحد البنوك الكبرى الخاصة، وهو ما خفف سعير النقاشات المحتدمة.
غير أن عاصفة التنبؤات لم تهدأ، ولن تهدأ حتى بعد أن يستقيل رئيس الوزراء عبدالله النسور ويُعيّن خليفة له غير عوض الله. فما يزال كثيرون يعتبرون الأخير “عراباً للسياسات الليبرالية”، ويحمّلونه وزر بيع شركات القطاع العام وتضاعف حجم المديونية، ويسهبون في انتقادات أخرى تشمل مشروع التحول الاقتصادي الذي أشرف عليه إبّان توليه مناصب وزارية قبل عشر سنوات.
لكننا أبناء اليوم، وعوض الله اشتد صلابة مع الوقت، رغم أن همومه كبرت وتكاثر الأعداء من حوله. وليس له من بد أن يشبّ عن الأطواق التقليدية، ويقدم دفاعات أكثر تماسكا مما يقدمه الآن على مواقع التواصل الاجتماعي، ليقنع الناس بأن الطريق إلى الشفاء محكومة بضرورة تجرع العلاجات المُرّة.
صحيفة العرب
نيسان ـ نشر في 2016/05/14 الساعة 00:00