ابن التراب!

سلمان العودة
نيسان ـ نشر في 2016/05/27 الساعة 00:00
في قصة الإسراء والمعراج عرض جبريل عليه السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- إناء من لبن وإناء من خمر، فاختار النبي اللبن، فقال جبريل: «هُدِيتَ الْفِطْرَةَ أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ» (رواه البخاري ومسلم). الفِطْرَة جاءت مع الإنسان الأول، وما يشرب الإنسان أو يأكل يؤثر في مزاجه وشخصيته..فكيف بالمادة الأصلية التي خُلق منها ومنها تكوّن لحمه وعظمه وعصبه وأعضاؤه (الطين)؟ الخلق من طين معنى شائع في الكتب السماوية والثقافات البشرية، وثمّ أدلة وجدانية في داخلنا تعبّر عن طينية الإنسان يلمسها المرء في أنفاسه ومشاعره وأحاسيسه وتقلّباته.. كنا في ظهر ذلك الرجل الأول، ومررنا بمراحل وآلام وأهوال حتى وصلنا هنا..وما زالت الرحلة مستمرة..بمقدورنا إذًا أن ننسى آلامنا فهي عابرة. أجيال بعد أجيال مرّت على هذه الأرض وأنت ما أنت فيهم إلا ومضة قصيرة..فلكي تذكر: تواضع..أحب..اعمر..تسامح. أجد مراحل الطين في ذاتي، وحين تمر بي تحولات الفرح والحزن، والسعادة والشقاء، والسكون والثورة، واليقين والشك؛ أتذكّر الطين اللَّازب، والحمأ المسنون، والصلصال..بل أتذكر الماء الذي عجن به الطين..وماء الأرض فيه الحلو العذب الفرات، وفيه الملح الأجاج، وفيه المر.. يكشف ذلك التعبير النبوي: "لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَةٌ وَلِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةٌ » (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه). بيت من الطين..ذاك هو الإنسان، وبيوت الطين تُذكِّر بالقرية والبساطة والعلاقات الحميمية الطيبة. سألت صديقًا عن شخص ما، فقال: لقيته بالأمس وهو غريب الأطوار، تراه اليوم مقبلًا منبسطًا إليك، ثم تراه من الغد وكأنه لا يعرفك! إنه متقلّب المزاج! حتى أنا مثله، متردد بين الحماس والفتور، والإقبال والإدبار! القلب يحب حتى يذهل، ثم يُعرض، ويقدم ثم يُحجم، ويتسامى ثم ينحط! مراحل الطين تمر بي جميعها، وأنواع الماء، أجد الحمأ المسنون في مسام الجسد فأحتاج لمعالجته؛ لأشعر بنشوة النظافة ونفثة العطر. وأجده في مسام الروح فأحتاج للتسبيح والذكر والاستغفار؛ لأمحو لحظة غفلة أو شرود أو استجابة للنفس الأمارة. يقع لي مشكلة مع متابع لا يراني إلا متفائلًا مبتسمًا سعيدًا حتى ظن أني من طينة غير طينته..كلا؛ ولكني أظهر الحسن وأستر القبيح! هل هو خطؤه؟ أم خطئي؟ أم خطؤنا معًا؟ أنفصل عن عفويتي حينًا لأني أجد خصمًا عنيدًا أو جاهلًا متربصًا فأقرر أن أفوّت عليه فرصة (تغريدة) تعبر عني بصدق، ولكنه سيذهب بها يمينًا أو شمالًا حتى تفقد عفويتها! الطين خصب قابل للإنبات.. تكون فيه الورود والأزهار والأشجار النافعة، وتكون الأشواك والأشجار السامة والمخدرة.. وقد تتجاور هذه وتلك، هكذا نحن فينا التقوى والفجور والزكاة والتدسية.. الإنسان خليفة في الأرض فأن يكون مخلوقًا من طينها فهو أدعى لنجاحه في استعمارها، والغوص على أسرارها، ومعرفة قوانينها، والضرب فيها. العمل والكد والكدح و(عرق الجبين) ليس عيبًا..هو سر التميز والإبداع. الطين يمنح المرونة والتشكّل والتكيف مع الظروف والمتغيرات المناخية والاجتماعية، بخلاف ما لو كان الخلق من القش أم من الصخر، الصخر قاس لا يلين، والقش متفرق لا يلتئم! الطين يمنح التنوع، الأبيض والأسود وما بين ذلك، والطيب والخبيث وما بين ذلك، واختلاف الطبائع والميول يثري الحياة ويوسعها. وعن أبى موسى مرفوعًا: «إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» (رواه أحمد، والترمذي وصححه، والحاكم وصححه). كانت العرب تقول: لَا تَكُن يَابِساً فَتُكْسَر ولَا رطبَاً فَتُعْصَر. والطين كذلك جمع بين الليونة والقوة. الطين يوحي بالنهاية، {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (55: طـه) ..والنجاح دومًا ممنوح لأولئك الذين يبدؤون العمل وعيونهم على النهاية، «كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» (رواه البخاري عن ابن عمر). يبقى التراب أصلنا ولو وضعنا قباب الذهب فوق شواهد قبورنا، وأصررنا على تجاوز البساطة حتى بعد موتنا! أيها الحزانى: أمواتكم محفوظون في تربتهم؛ التي خُلقوا منها وإليها عادوا، وسوف تلقيهم الرحم مرة أخرى لميقات يوم معلوم.. إذا جاز التعبير عن الخلق الأول بالولادة من الأرض، فالأرض هي الأم الرؤوم الصابرة المتحملة لكل عبثنا وشقاوتنا بل وحماقاتنا الكبيرة. هي أمنا وأصلنا فلا غرابة أن نتأذى يوم أن يستشري على ظهرها الفساد والظلم! حين نقترب من التربة التي وُلدنا فيها، ومنها وعليها نشعر بالدفء والعافية «تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا لِيُشْفَى بِهِ سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» (رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة). وحين نأكل منتجاتها الفطرية الطبيعية السالمة من الدخل نكون أقرب للشفاء والصحة.. ولا غرابة أن نشعر بالخوف كلما فارقناها فخضنا لجج البحار أو صعدنا أجواز الفضاء! نحن أبناء التراب نطؤه بأقدامنا لنتعلم التواضع وننفي الكبر والخيلاء.. وهل يتكبر الإنسان إلا ساعة ينسى أنه طين حقير؟! مهما صعدنا للفضاء، وترقينا في المعارف، ودارت رؤوس بعضنا بالكبر المعرفي أو المالي أو السلطوي، يظل التراب يطوقنا ويجرنا إليه، ويعيدنا لأصلنا الأول! حين تقارن، قارن أحسن ما فيك بأسوأ ما فيك لترتقي وتسمو، ولا تقارن أحسن ما فيك بأسوأ ما عند الآخرين ليظهر تفوقك ونقصهم! الذين لا ينظرون إلا للجانب السيِّئ فيك يشبهون صفة الشيطان يوم نظر إلى أسوأ ما في آدم: {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (33: الحجر). الشرق القطرية
    نيسان ـ نشر في 2016/05/27 الساعة 00:00