عبد السلام المجالي..ملف الفيدرالية الأردنية الفلسطينية بين الوهم والواقع
نيسان ـ نشر في 2016/06/19 الساعة 00:00
كتب محمد قبيلات ...لم تُتعِب الدكتور عبدالسلام المجالي أعوامه التي تربو على التسعين. حملها من دون أن تثقل كاهله، أو تقعده للحظة رهينة للوهن أو التقاعس عن العمل، حملها بالهمة ذاتها التي كان فيها يحمل حقيبته الملأى بالكراريس المدرسية، وهو ابن الخامسة، الساعي إلى كتّاب الشيخ محمد في الكرك، وظل بهدوئه المعهود، يمد يده، بين الفينة والأخرى، في جعبته، يتحسس تلك السنين “الدفاتر” كما يتحسس جزءا من جسده، فيطمئن أنها ما زالت مرزومة بالترتيب الذي أراده لحظة مغادرة بيت عائلته في قرية الياروت، مضمخة بذلك العبير العبق.
حملته سنينه على استثناء لا يحدث لسائر الناس، فمن الياروت إلى الكرك ثم إلى السلط، حيث تتلمذ على أيدي أساتذة لم تمهلهم السياسة كثيرا، فاختطفتهم من فصول التدريس.
فأيّ عجب إذ يتبع التلميذ المريد معلميه، علّمه وصفي التل الفيزياء، ولم تكن تنقصه إجادة الحسابات أو معرفة الاتجاهات، فهي مغروسة فيه فطرة مشفوعة بالحذر والتدقيق، لكنها تجذرت هناك ليعود إلى الكرك متسلحا بالمزيد من المضاء ليشغل منصبا ماليا في الدوائر الحكومية المحلية، يصبح فيها مسؤولا عن والده الموظف هناك.
وتشاء الصدف أن تبرز ملامح شخصيته الصارمة مبكرا، فيحدث خلاف بينه وبين أحد الموظفين ليتدخل والده نصرة لزميله، فيتطور الخلاف، بشكل لم يطقه، بينه وبين والده، فيترك الوظيفة ويغادر إلى دمشق ملتحقا بأخيه عبدالوهاب، الذي درس الحقوق في الجامعة السورية، لينتظم في كلية الطب. رجل اتفاق وادي عربة
يعود من دمشق في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، ليتدرج في الوظائف حتى يصبح مديرا للخدمات الطبية، ثم رئيسا للجامعة الأردنية عام 1972 فينشئ كلية الطب، ومن بعدها يواصل تدرّجه إلى أن يصبح رئيسا للوزراء.
في الطريق إلى ذلك، صار وزيرا، وترأس الوفد الأردني في مفاوضات السلام مع إسرائيل، حيث ظهرت هنا ملامحه السياسية، وأفكاره الميالة لتعزيز الخط السياسي التقليدي للدولة الأردنية، فتشكل الوفد الأردني وضمنه وفد عن منظمة التحرير الفلسطينية، ليكتشف لاحقا أن هناك وفدا بقيادة محمود عباس يفاوض فعليا الإسرائيليين في مكان آخر، وتوصّل معهم لصيغة اتفاق أوسلو.
كانت ضربة موجعة لمحاولات بلورة علاقة أردنية فلسطينية على أساس كونفيدرالي، فتجرّع المجالي هذا الفصل من الفشل بصبره المعروف، وواصل دأبه في مفاوضات منفردة مع إسرائيل ستفضي في النهاية لاتفاق وادي عربة.
رغم انتماء صاحب القرار الأردني إلى المدارس السياسية الحديثة، وعدم انسجامه مع المدرسة البيروقراطية الأردنية المحافظة، وبرغم ما يبدو من ميله للتوجهات الليبرالية، إلا أنه لا يسلم الملفات الأساسية إلا لمن يُعرفون في السياسة بـ”الديناصورات”، بينما يترك السياسات البرامجية والتنفيذية لليبراليين، والليبراليين الجدد ومن لفّ لفّهم.
ولقد سبق لمهندس اتفاقيات السلام مع إسرائيل، زيارة الضفة الغربية أكثر من مرة، كان آخرها شهر مايو الماضي، حيث أثارت هذه الزيارة لغطا سياسيا كبيرا، رغم أنها لم تحظَ بتغطية إعلامية أردنية مناسبة، عن قصد ربما، لكن هذا ما أثار زوبعة من التكهنات والاستنتاجات في الإعلام الأردني.
فما رشح عبر وسائل إعلامية فلسطينية حول طرح موضوع الكونفيدرالية قليل، لكنه كان كافيا لإشعال الكثير من الأسئلة، فحاول المجالي نفيه لكن ليس بالشكل القاطع، حيث قال إنه لم يتحدث عن الكونفيدرالية، بل، وكما أوضح لصحف ومواقع إخبارية أردنية، أنه لا يمثل أيّ صفة رسمية أو حكومية. وإن ما صدر عنه، يمثل آراء تعبر عن وجهة نظره الشخصية، فيما صورت تغطية بعض وسائل الإعلام المقترحات التي طرحها كما لو أنها “خطة” أو “مبادرة رسمية” سوف تنفذ غدا، وأردف مؤكدا أن حديثه لم يكن عن الكونفيدرالية، بل كان عن صيغة مبتكرة (فيدرال – كونفيدرال)؛ “فيدرال” في ما يتعلق بالدفاع والخارجية والاقتصاد، و”كونفيدرال” في سن قوانين وأنظمة خاصة بأوجه الحياة الأخرى.
كيف بدأت قصة الكونفيدرالية
دخل السياسي المخضرم بشروحات عن أهمية اللامركزية في القضاء على الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، لتتطابق هذه التصورات مع رغبة إسرائيلية بالتخلص من الضفة الغربية وقطاع غزة، عبر إتباعهما بالأردن وربطهما بممر يحاذي سيناء إلى طابا ومن ثم يدخل الضفة من الأراضي الأردنية.
بدأ الحديث عن موضوع الكونفيدرالية في السنوات الأخيرة في الصحافة الإسرائيلية، وأدلى بعض الخبراء، مثل سرّي نسيبة بدلوهم في الموضوع. ليُتبع ذلك بزيارات للمجالي إلى الضفة الغربية، رافقه في إحداها عمرو موسى بعد تركه منصب أمين عام جامعة الدول العربية، فحلّ الرجلان ضيفين على رجل الأعمال الفلسطيني المعروف صبيح المصري.
وأجرت جامعة النجاح الفلسطينية استطلاعا للرأي العام الفلسطيني وجهت من خلاله سؤالا صريحا للمستَطلعين عن مدى تأييدهم لدخول الضفة في وحدة كونفيدرالية مع الأردن، أعلن فيه 42.3 بالمئة تأييدهم اتحاداً كونفيدرالياً مع الأردن.
تبع ذلك لقاءات وتصريحات مختلفة، منها مثلا لنائب في البرلمان الأردني، هو محمد عشا الدوايمة، حيث التقى مجلس عشائر الخليل، وألقى كلمة قال فيها إنّه يوجد في محافظة الخليل مليون مواطن أردني، فتحمس المجلس وتوجه لتسيير وفود إلى الديوان الملكي في عمّان، للمطالبة بتحقيق الكونفيدرالية الأردنية الفلسطينية.
المجالي رأى في حديث صرح به لصحيفة أردنية، أن البعض لم يفهم جيدا هذه التصريحات. وقال “للأسف البعض فهم أو كتب أنها تمثل دعوة فورية لإعلان صيغة الوحدة بين الأردن وفلسطين. وفهم كذلك أنها دعوة للكونفيدرالية بمفهومها التقليدي، نحن اليوم لا نرضى بذلك، لأن الدولة الفلسطينية لا تزال تحت الاحتلال، والفلسطينيون هم من يفاوضون من أجل استقلالهم الوطني وليس الجانب الأردني. والأردن لن يرضى بقيام وحدة قبل اعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة لها عاصمة وحدود. نحن لا نريد وحدة أو اندماجاً فورياً قبل اعلان استقلال فلسطين. وأهم شيء قبل نظام الوحدة القائم على ‘اللامركزية’ أي المزاوجة بين الفيدرالية والكونفيدرالية هو استقلال فلسطين، وقبل وجود كيان فلسطيني مستقل، لا يمكن الحديث عن أيّ نوع من الوحدة والاتحاد، والأهم من كل ذلك، هو إجراء استفتاء شعبي في الأردن وفلسطين يوافق على هذه الوحدة”. ابتسامة الملك
كان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني قبل سنوات، يلبي دعوة وجهها له المجالي في قريته الياروت والذي كان عائدا للتو من زيارة للضفة الغربية، فدار حديث مع الحضور من أهل المنطقة المدعوين، سأل أحدهم الملك عن الكونفيدرالية، فكان الجواب ابتسامة ملكية وتحويلا للسؤال إلى المجالي من دون الحصول على جواب، فقد قال الملك “اسألوا الدكتور عبدالسلام”.
وفي أكثر من حديث نفى الملك وجود أيّ أطروحات عن الكونفيدرالية. لكن، ومع الفشل المستمر للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ورفض تل أبيب حل الدولتين، يظل موضوع الخيار الأردني سواء عن طريق الكونفيدرالية أو غيرها مطروحا. ويدعم هذا الطرح، الواقع السياسي الناتج عن تعطّل عملية السلام، بالإضافة إلى ما تمليه الظروف الجديدة في المنطقة من مشاكل في الدول العربية قد تستدعي ترسيما جديدا للحدود، بالتأكيد لن يكون منعزلا عن حل للموضوع الفلسطيني. كما أن هناك رأيا عاما فلسطينيا يدفع باتجاه الحل السياسي، أيّ حل سياسي، يعززه الشعور باليأس من الواقع.
الأردن الرسمي قالها أكثر من مرة، لن تكون الدبابة الأردنية بديلاً عن الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهناك الكثير من التحفظات الفلسطينية على الدور الأردني، رغم ما تظهره الاستطلاعات، فلقد ولّى ذلك الزمان الذي انتشرت فيه المقولة الفلسطينية “مية إقلب ولا شالوم واحدة”، و”إقلب” كلمة بالدارجة الأردنية تستخدم للزجر بمعنى انصرف، وكانت على ما يبدو تستخدم من قبل قوات البادية الأردنية. العلاقة الأردنية الفلسطينية
لم يكن لعبارة “علاقة أردنية فلسطينية” معنى قبل 1916، حيث كانت فلسطين والأردن جزءا من بلاد الشام والتي كانت تتبع الدولة العثمانية. لكنّ تاريخ المنطقة لم يبدأ بسايكس بيكو ووعد بلفور فقط، بل هناك اتفاقية سان ريمو والتي ترجمت وعد بلفور ورسّمته على الأرض فصار كل من شرقي الأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني مع الالتزام بتنفيذ وعد بلفور.
وجاءت لجنة بيل البريطانية (1937) في أعقاب ثورة 1936 لتتبنّى مفهوماً يتسق مع هذه الرؤية، حين أوصت بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام: دولة يهودية، منطقة انتداب بريطاني على الأماكن المقدسة، ومنطقة عربية تضم إلى شرق الأردن.
قامت الثورة الوطنية الفلسطينية بقيادة عبدالقادر الحسيني، وبدعم من القبائل الأردنية وبعض أحرار العرب، لكن بريطانيا قمعتها وواصلت تسليم فلسطين لليهود لبناء وطنهم الموعود في إسرائيل، حتى جاءت لحظة مشروع التقسيم الأممي ورفضه العرب وقامت الحرب عام 1948.
كان عديد الجيوش العربية نحو خمسة وعشرين ألف جندي، من ضمنهم ستة الاف من الجيش العربي الأردني، بينما كان عديد الجيش الإسرائيلي والمنظّمات اليهودية المساندة له حوالي خمسين ألف مقاتل يتميزون بالخبرة والتّسليح والدعم البريطاني، إضافة إلى وجود عدد كبير من الضباط اليهود الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، والقادمين من دول أوروبية كمهاجرين إلى أرض الميعاد.
نتج عن الحرب أن قسمت فلسطين إلى ثلاثة أجزاء؛ الضفة الغربية وفلسطين 1948 وقطاع غزة، من هنا بدأ الحديث عن دور فعلي للأردن، حيث كانت هناك محاولة لتشكيل حكومة فلسطينية في قطاع غزة لتشمل عموم فلسطين وقد شُكلت برئاسة أحمد حلمي عبدالباقي في مطلع شهر نوفمبر من العام 1948.
عقدت عدة مؤتمرات في عمان وأريحا، نتج عنها قيام الدولة الأردنية على الضفتين. وترجم ذلك بتشكيل حكومة ومجلس نواب منتخب مناصفة بين الضفتين. وظل هذا الوضع سائدا حتى عام 1967 حيث احتلت إسرائيل الضفة الغربية، لكن ظل الإشراف الأردني على المقدسات والكثير من المؤسسات قائما، حتى بدأ الحديث عام 1986 عن إمكانية التوصل إلى اتفاقية مع إسرائيل فنشب خلاف بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأسفر عن تبليغ أبو جهاد خليل الوزير بأنه شخص غير مرغوب به على الأرض الأردنية، فغادر وأغلقت مكاتب فتح في عمان، وصدر قانون فك الارتباط مع الضفة الغربية.
“من بيت الشعر إلى سدة الحكم” هو عنوان مذكرات الطبيب والسياسي الأردني عبدالسلام المجالي التي صدرت قبل سنوات. لكنها ما زالت بحاجة إلى فصل أو أكثر، حيث ما زال يضيف يوميا إلى رصيده التاريخي المزيد من الصفحات، وصحيح أن البعض يراها من زاوية أخرى، لكن الرجل لا يخفت عنده الاعتداد بمسيرته الطويلة، فما زال يدافع عن دوره في صناعة السلام، ويرى أن الحل السياسي هو الحل الممكن والذي يحافظ على بعض الحقوق العربية، ويثبّت الفلسطيني في أرضه.
وكما واجه والده في مقتبل العمر، ما زال يواجه جميع من حوله بالأسلوب ذاته، وعندما مازحه بعض ممّن عملوا معه ووصفوه بالدكتاتور، رد عليهم بأنه ليس دكتاتورا بل “حازم”.
وبعودته إلى الياروت، صمّم بيته الجديد على شكل “بيت الشَّعْر” ما يُظهر أنه ما زال مسكونا بالحنين إلى البداية، وكأنه يتجهز لتعديل عنوان مذكراته فيختمها بتوضيح هذا الفصل المهم الأخير من نشاطه السياسي وليصبح العنوان الجديد “من بيت الشعر إلى سدة الحكم إلى بيت الشعر”. طبعا، لا يُخفي أو يُضيّع هذا العنوان ما حققه المجالي من فارق وإضافة نوعية في العمل السياسي الأردني. العرب اللندنية
نيسان ـ نشر في 2016/06/19 الساعة 00:00