الإرهاب من (الدواعش) إلى (المختلّين عقليًا)

عبد الوهاب بدرخان
نيسان ـ نشر في 2016/08/02 الساعة 00:00
لم يكن هناك عقلٌ مدبّرٌ خطّط لمجزرة المجمع التجاري في ميونيخ (22/07)، بل ارتكبها شاب إيراني الأصل بمفرده وما لبث أن ختمها منتحراً، لكن توقيتها أثار الهلع على المستوى الشعبي العام بمقدار ما استدعى الاستنفار الأقصى على المستوى الأمني. فالجريمة وقعت في سياقَين متوازيَين ومتلاقيَين: الأول تحليليٌ مفاده أن تنظيم «داعش»، الذي يعيش عدّاً عكسياً لنهاية «دولته» المزعومة، خلص إلى اعتماد استراتيجية الهجمات الفردية. أما السياق الآخر فيتعلّق بالوقائع، إذ أن الأسبوع الذي مضى على مجزرة «نيس» يوم العيد الوطني الفرنسي لم ينسِ العالم تلك الوحشية التي قادت الشاحنة فوق أجساد المحتفلين، وقبل ذلك كانت مجزرتا أورلاندو (11/06) ودكا (02/07) وهجمات عدة في السعودية كان أحدها بالقرب من الحرم النبوي الشريف في المدينة المنوّرة. وبذلك تمكّن التنظيم منذ نهاية مايو أن يبرهن على أن خطره أصبح معولماً، وأن قدرته على تمرير تعليماته وتنفيذها تفوق قدرة أي جهاز أمني. غير أن التجربة الألمانية أشارت إلى أن هذين -الخطر والقدرة- يمكن ألا يكونا «داعشيَين» فحسب، بل يمكن أن يكونا نتيجة «اختلال عقلي» أو «عدم استقرار نفسي». وهذا ما رجّحته جريمة المريض الذي قتل طبيباً في مستشفى في برلين ثم انتحر، بالتزامن مع مقتلة ارتكبها رجل يحمل سكيناً عندما اقتحم منشأة للمعوقين جنوب شرقي طوكيو (26/07). تبقى هذه حادثة معزولة في بلد كاليابان لم يعد يشكو من ظواهر العنف الإرهابي التي شهدها مع «الجيش الأحمر» في سبعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فإن تشريحها يلتقي مع ما ذهب إليه محللون ألمان لأربع هجمات (اعتداء بفأس وسكين في قطار في بافاريا، إطلاق نار جماعي في ميونيخ، اعتداء آخر بالسكّين في ريوتلنغن، وتفجير انتحاري في إنسباخ). إذ يعتبرون أن جميع المهاجمين كانوا يعانون من اضطرابات في الصحة العقلية، ويقولون إنه لا توجد صلة كبيرة بين هذه الهجمات، رغم أن «داعش» تبنى اثنين منها. لكن الأسوأ، بل الأخطر، أن مجموعة «كونترول ريسكس» (مراقبة المخاطر) اللندنية توصّلت لاستخلاصين: أولهما أن «زيادة عدم الاستقرار العالمي تجعل من السهل على هؤلاء أن يرغبوا في التعبير عن أنفسهم من خلال العنف»، والآخر أن «كل الجرائم ارتكبت بهدف إذكاء التوتّرات في البلاد، والإسراع في استقطاب المجتمع الألماني»… ويعني ذلك أن العالم بات أمام احتمالين متلازمين – إرهاب واختلال عقلي – وأن ما حصل في ألمانيا يدعو إلى التمييز بينهما، خاصة أن النتائج التي توصل إليها المحقّقون الأمنيّون تواكبت مع تحليلات الأطباء النفسيين لخلفيات الجناة. ولعل ما دفع إلى مقاربة كهذه أن السلطات الأمنية تعمل منذ أعوام طويلة على مكافحة التطرّف العنفي، وتثق باستعداداتها الاستباقية لأي عمل إرهابي. لكن هذا لم يمنع أن الجريمتَين الفرديّتَين اللتين تبناهما «داعش» تلتقيان مع النمط الإرهابي الذي تشهده فرنسا، واتّسم أخيراً بتصعيد بالغ الخطورة في اقتحام كنيسة ونحر كاهنها. صحيح أن الوقائع تشير بوضوح إلى الأوساط التي ينشط فيها التنظيم للاستقطاب والتجنيد، وهي البيئات ذات الأصول الإسلامية المهاجرة التي يخرج «الدواعش» من مهمّشيها أو هامشييها، إلا أن مناخ القتل الممشهد إعلامياً، بالتغطية المباشرة للاستنفارات والمداهمات الأمنية، وبما يستدرجه من إجراءات تغيّر سلاسة الحياة اليومية، بدأ يستهوي المختلّين والمضطربين نفسياً ليستسهلوا بدورهم القتل ويصبحوا «دواعش مستلهمين». ثمة تاريخ وأرشيف لجرائم القتل الجماعي في الدول الغربية، وكلّها يُنسب إلى مهووسين، غير أن أكثرهم خطراً هم مَن يضفون على جرائمهم طابعاً عنصرياً وسياسياً، كما فعل القاتل النروجي أندريس بيهرينغ بريفيك (عام 2011) الذي نمّت أفكاره المكتوبة عن عداء خالص للمسلمين عموماً وإعجاب بإسرائيل وكره للاتحاد الأوروبي، ما يجعله عملياً من «الدواعش» المبكرين. المؤكّد، من دون الاستعانة بآراء أطباء نفسيين، أن تزاوج «التدعّش» والاختلالات العقلية بات حقيقة علمية، من دون أن ينفي ذلك مسؤوليات مسبقة أخلّت الأنظمة والسلطات (دولية ومحلية)، أو المؤسسات الدينية، أو حتى المجتمعات، في تحمّلها. فحيث تتراكم المآسي لا بد لنوازع العنف والانتقام من أن تتفجّر، وحيث تُترك المآسي طويلاً من دون حلول وبوارق أمل، فإنها تؤدّي بهذا العنف إلى التجذّر والتوحّش، وحيث تتعفّن المآسي تبدأ بدفع قوافل اللاجئين في كل الاتجاهات ومعها احتمالات الاختراق «الداعشي» لمجتمعات غربية تجد نفسها الآن مضطرة لمراجعة قوانينها ومفاهيمها، لتتمكّن من مواجهة العنف الطارئ عليها بكل اختلالاته.
    نيسان ـ نشر في 2016/08/02 الساعة 00:00