احتفال عربي بالموت
نيسان ـ نشر في 2016/08/09 الساعة 00:00
غريبٌ هذا الاحتفال العربي بالموت، حتى لكأني بتّ متشكّكاً بصحة عبارة محمود درويش التي أصبحت لازمة على ألسننا: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
أقول ذلك، وأنا أتأمل الآن صورةً يتداولها "فيسبوكيون" عربٌ بكثير من عبارات الورع والتقوى عن كهل ملتح "على قيد الحياة"، لكنه يجلس في قبره المقترح الذي حفره في حديقة منزله، على ما يبدو، ويستغرق في قراءة القرآن، ذاهلاً عن كل ما يحيط به، بعد أن قرّر أن يُمضي ما تبقى له من عمر في هذا القبر، استعداداً للموت، متحللاً من "أعباء الدنيا" وما عليها، على اعتبار أنها دنيا فانية، ولا ينبغي، بالتالي، أن يتشبث بها الإنسان، ولا أن يعيرها أدنى اهتمام، ولولا أن الانتحار محرّم، لفعلها هذا الكهل وانتحر، مستبقاً ما تبقى له من مسافةٍ بينه وبين أجله، برصاصة أو غيرها.
يتداول الأنصار هذه الصورة، ويبجّلون ما أقدم عليه هذا الكهل، بكثير من عبارات الإعجاب الممزوجة بمسوّغاتٍ دينيةٍ عن الحياة الدنيا التي لا تساوي "شروى نقير"، و "شجرة عابر السبيل"، وما إلى ذلك، حتى لكأني شعرتُ في بعض التعليقات، وكأن أصحابها لن يتورّعوا عن تقليد هذا الكهل، لو كانوا يمتلكون حديقةً في منازلهم، فينتزعون الورد والشجر، ويحفرون مكانها قبوراً معدّة لاستقبال جثثهم.
والحال، أن مثل هذه المنشورات العربية ليست جديدة تماماً على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها استفحلت في الآونة الأخيرة، كمشاهد القبور، وتغسيل الموتى، مع التذكير بضرورة الاستفادة من العبر التي تتضمنها هذه المشاهد، وكأنه لم يعد من هاجس للمواطن العربي غير "الأجل"، والقبر.. وتوابعهما من الأكفان والتوابيت، وقطن المؤخرات.
أقدّر أن لاستحضار الموت، عربياً، أسباباً كثيرة في هذه الآونة، حصراً، التي استوت فيها الحياة والموت، بعد أن صارت مشاهد الموت العبثي خبراً مكروراً في نهارات الإنسان العربي ولياليه، فغدا الاحتفال بالموت خلاصاً عند كثيرين، لا سيما إذا اقترن بالتحلّل من أعباء الفقر والتشرّد، والتجرّد من أنياب الظلم والاستبداد، ومن الذل الذي أورثه قرنٌ من الاحتلال الصهيوني فلسطين، وتداعياته البائسة على الشخصية العربية.
غير أني، في المقابل، أدين هذا الاحتفال بالموت، للأسباب السابقة نفسها، لأن الموت، في هذه الحالة، لا يمثل خلاصاً بل هروباً، وحريّ بمن يذهب إلى الموت أن يمضي بكامل حياته، لا بنصفها أو ربعها.
تستحق الحياة منا أن نعيشها على طريقة محمود درويش، أن نزرع فيها وردةً قبل القبر، أن نقارع الظلم والطغاة، ونحفر قبورهم قبل قبورنا، وأن نسقي الشجرة التي نستظلّ بها، في طريقنا إلى الحياة الأخرى، أما أن ندعها لنحفر قبورنا بأيدينا، ونقيم فيها، فذلك يعني أننا لا نستحق الحياة أصلاً. وفي هذه الحالة، لن نختلف، كثيراً، عمّن يولّي الأدبار يوم الزحف، لأن الحياة معركة، أيضاً، فأيّ قبرٍ ذلك الذي سيحتفي بالمهزومين والهاربين، ما دامت الحياة، أصلاً، لم تحتفِ بهم؟
تلصق بالعربي، دوماً، تهمة التهرب من أعباء الحياة، وشروطها، ثم تأتي مثل تلك المنشورات البائسة، لتكرّس هذه التهمة، وتعمقها، وكأن العربي يودّ القول إن الحياة كلها غدت بالنسبة له عبئاً، ينبغي الخلاص منه، ولربما تستطيل التهمة أزيد من ذلك، ليصبح العربي كارهاً لحياة الآخرين، أيضاً. ومن هنا، يكون نسف الآخرين وتفجيرهم جزءاً من هذا الكره العام للحياة، خصوصاً وأن هناك من يتسقّطون مثل هذه المنشورات، لتشويه الشخصية العربية.
عموماً، في خضم المفارقة بين من يقيمون ناطحات السحاب ومن يحفرون القبور، تحضرني خاتمة رواية "زوربا"، الكهل الذي لم يكن مستعدّاً للتفريط بثانيةٍ واحدة من حياته، من دون أن يعيشها حدّ الثمالة، وحين أحسّ بدنو أجله، ودّع الحياة بقهقهةٍ طويلة، وهو يعبّ بعينيه آخر مشاهد الدنيا من نافذة بيته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
أقول ذلك، وأنا أتأمل الآن صورةً يتداولها "فيسبوكيون" عربٌ بكثير من عبارات الورع والتقوى عن كهل ملتح "على قيد الحياة"، لكنه يجلس في قبره المقترح الذي حفره في حديقة منزله، على ما يبدو، ويستغرق في قراءة القرآن، ذاهلاً عن كل ما يحيط به، بعد أن قرّر أن يُمضي ما تبقى له من عمر في هذا القبر، استعداداً للموت، متحللاً من "أعباء الدنيا" وما عليها، على اعتبار أنها دنيا فانية، ولا ينبغي، بالتالي، أن يتشبث بها الإنسان، ولا أن يعيرها أدنى اهتمام، ولولا أن الانتحار محرّم، لفعلها هذا الكهل وانتحر، مستبقاً ما تبقى له من مسافةٍ بينه وبين أجله، برصاصة أو غيرها.
يتداول الأنصار هذه الصورة، ويبجّلون ما أقدم عليه هذا الكهل، بكثير من عبارات الإعجاب الممزوجة بمسوّغاتٍ دينيةٍ عن الحياة الدنيا التي لا تساوي "شروى نقير"، و "شجرة عابر السبيل"، وما إلى ذلك، حتى لكأني شعرتُ في بعض التعليقات، وكأن أصحابها لن يتورّعوا عن تقليد هذا الكهل، لو كانوا يمتلكون حديقةً في منازلهم، فينتزعون الورد والشجر، ويحفرون مكانها قبوراً معدّة لاستقبال جثثهم.
والحال، أن مثل هذه المنشورات العربية ليست جديدة تماماً على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها استفحلت في الآونة الأخيرة، كمشاهد القبور، وتغسيل الموتى، مع التذكير بضرورة الاستفادة من العبر التي تتضمنها هذه المشاهد، وكأنه لم يعد من هاجس للمواطن العربي غير "الأجل"، والقبر.. وتوابعهما من الأكفان والتوابيت، وقطن المؤخرات.
أقدّر أن لاستحضار الموت، عربياً، أسباباً كثيرة في هذه الآونة، حصراً، التي استوت فيها الحياة والموت، بعد أن صارت مشاهد الموت العبثي خبراً مكروراً في نهارات الإنسان العربي ولياليه، فغدا الاحتفال بالموت خلاصاً عند كثيرين، لا سيما إذا اقترن بالتحلّل من أعباء الفقر والتشرّد، والتجرّد من أنياب الظلم والاستبداد، ومن الذل الذي أورثه قرنٌ من الاحتلال الصهيوني فلسطين، وتداعياته البائسة على الشخصية العربية.
غير أني، في المقابل، أدين هذا الاحتفال بالموت، للأسباب السابقة نفسها، لأن الموت، في هذه الحالة، لا يمثل خلاصاً بل هروباً، وحريّ بمن يذهب إلى الموت أن يمضي بكامل حياته، لا بنصفها أو ربعها.
تستحق الحياة منا أن نعيشها على طريقة محمود درويش، أن نزرع فيها وردةً قبل القبر، أن نقارع الظلم والطغاة، ونحفر قبورهم قبل قبورنا، وأن نسقي الشجرة التي نستظلّ بها، في طريقنا إلى الحياة الأخرى، أما أن ندعها لنحفر قبورنا بأيدينا، ونقيم فيها، فذلك يعني أننا لا نستحق الحياة أصلاً. وفي هذه الحالة، لن نختلف، كثيراً، عمّن يولّي الأدبار يوم الزحف، لأن الحياة معركة، أيضاً، فأيّ قبرٍ ذلك الذي سيحتفي بالمهزومين والهاربين، ما دامت الحياة، أصلاً، لم تحتفِ بهم؟
تلصق بالعربي، دوماً، تهمة التهرب من أعباء الحياة، وشروطها، ثم تأتي مثل تلك المنشورات البائسة، لتكرّس هذه التهمة، وتعمقها، وكأن العربي يودّ القول إن الحياة كلها غدت بالنسبة له عبئاً، ينبغي الخلاص منه، ولربما تستطيل التهمة أزيد من ذلك، ليصبح العربي كارهاً لحياة الآخرين، أيضاً. ومن هنا، يكون نسف الآخرين وتفجيرهم جزءاً من هذا الكره العام للحياة، خصوصاً وأن هناك من يتسقّطون مثل هذه المنشورات، لتشويه الشخصية العربية.
عموماً، في خضم المفارقة بين من يقيمون ناطحات السحاب ومن يحفرون القبور، تحضرني خاتمة رواية "زوربا"، الكهل الذي لم يكن مستعدّاً للتفريط بثانيةٍ واحدة من حياته، من دون أن يعيشها حدّ الثمالة، وحين أحسّ بدنو أجله، ودّع الحياة بقهقهةٍ طويلة، وهو يعبّ بعينيه آخر مشاهد الدنيا من نافذة بيته، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
نيسان ـ نشر في 2016/08/09 الساعة 00:00