عبد الناصر وأهل الأدب
نيسان ـ نشر في 2016/10/02 الساعة 00:00
رحم الله الصديق الشاعر حسن توفيق، جمع في كتابٍ سمّاه "الزعيم في قلوب الشعراء" مائة قصيدةٍ لثلاثةٍ وتسعين شاعراً عربياً في رثاء جمال عبد الناصر، منهم محمد مهدي الجواهري ونزار قباني ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، صدرت له ثلاث طبعات، في الدوحة (1996) وبيروت (2002) والقاهرة (2013). ومؤكّدٌ أن ما من زعيمٍ عربي حظي بمثل هذا غير عبد الناصر الذي وصفه نزار بأنه "آخر الأنبياء"، ورآه الجواهري "أمّةً". وقد محضه شعراء وروائيون مصريون سُجنوا في زمنه تقديراً وإعجاباً معلنيْن. منهم عبد الرحمن الأبنودي الذي قال لمجلة مصرية في عام 2010 إن الهجوم على عبد الناصر "يدلُّ على قلة الأصل"، وأفاد بأنه خرج من السجن، وهو لا يحمل مرارةً في داخله، وإنه لمّا خرج من معتقله في 1967، كان وأصدقاء له يفرّقون بين عبد الناصر وتوجّهاته من جهة وأجهزته البوليسية والأمنية من جهة أخرى. ويبرّئه الأبنودي من أي مسؤوليةٍ في اعتقال كتّاب وأدباء كثيرين، وقال "كنت أعرف أن من اعتقلني ليس عبد الناصر، وإنما أجهزته البوليسية لتُجامله بسجني وسجن غيري، ليثبتوا أنهم قائمون على الأمن، وأنهم يقظون لمحاربة كل القوى المناهضة لسياسة الزعيم".
في الوسع، إذن، أن يُقال (مجدّداً؟)، والمناسبة هي الذكرى السادسة والأربعون لوفاته الأسبوع الماضي، إن جمال عبد الناصر يمثّل حالة إرباكٍ مستمرّة في الثقافة العربية، ذلك أن انعدام الديمقراطية ونقصان الحريات العامة ونوبات القمع والاعتقالات غير القليلة في عهده توازت كلها مع تحقّق إنجازاتٍ وطنيةٍ ونهوض تنموي كبير في مصر، ومع إنجاز مقادير ظاهرةٍ من العدالة الاجتماعية، وهذه كلها وغيرها هي من التطلعات التي يشتهيها المثقف العربي لبلاده وأمته. ومع التسليم العام بهذه الحقيقة، فإن ثمّة حقيقةً أخرى شديدة الوضوح، موجزها أن مصر شهدت، في زمن عبد الناصر على قصره (18 عاماً)، أرفع إبداعاتها في الآداب والفنون، ما قد يعد دليلاً على ما قاله جورج طرابيشي مرّة، إن من أهم الفنون ما تم إنجازه في عصورٍ غابت عنها الديمقراطية. ومن مفارقاتٍ كاشفةٍ، يقع عليها كتاب السويدية مارينا ستاغ "حدود حرية التعبير.. تجربة كتاب القصة والرواية في عهدي عبد الناصر والسادات" (ترجمة طلعت الشايب، شرقيات، القاهرة، 1995)، أنه، على الرغم من كثرة كتاب القصة والرواية في مصر الذين تعرّضوا للاعتقال في زمن عبد الناصر، إلا أنه لا توجد حالة حبسٍ واحدةٍ لأيٍّ منهم بسبب روايةٍ أو قصةٍ قصيرة بعينها. جميعهم كانوا يعتقلون لأسبابٍ سياسية، وليس بسبب كتاباتهم الأدبية، بل منهم من قال إنهم كانوا يتمتعون بقدرٍ كبير من حرية التعبير في الكتابة.
وقد يكون طريفاً، إلا أنه على قدرٍ من الإقناع، ما أخبر به يوسف إدريس مؤلفة الكتاب "لم تكن هناك حرية صحافة حقيقيةٍ، لكننا كنا نقبل ذلك، وكنا نحاول أن نقول للنظام أشياء كثيرة بطريقةٍ خلقت مدرسةً جديدة في الكتابة، يمكن أن أسميها الرمزية النشطة، تفهمينها ويفهمها القارئ، لكن الحكومة لا تفهمها". وهذا بهاء طاهر يقول لستاغ إنه كان، في عهد عبد الناصر، يعرف أن في مقدوره أن يقول ما يريد، وكان يستطيع ذلك بطريقةٍ ما. ويضيف "لم أكن علي أن أصرخ به عالياً، لكني كنت أقوله بطريقةٍ مؤثرةٍ، وكأني أصرخ به، وهذا، في النهاية، أفضل من الناحية الفنية". هو عبد الناصر الذي يتحمّل نظامه المسؤولية الأولى عن الهزيمة الكارثية في يونيو/ حزيران 1967 أمام إسرائيل، على الرغم من كل خطابياته التحشيديّة والتعبوية، والروح الوطنية والأنفاس القومية التي أشاعها في الأمة، غير أن جماهير عربيّة عريضةً غفرت له، وما زال يستوطن وجدانها الجمعي الموحد، بطلاً وزعيماً. هذا هو عبد الناصر في واحدٍ من وجوهه، فلا يصير غريباً أن يعفيه من حبسهم من أدباء وكتاب مصريين، ومن ذوي السويّة الإبداعية العالية، من المسؤولية عن حبسهم، بل وأن يزيّن آخرون جدوى فنيّةً أحدثها اختناقُ الحرية في زمنه. .. إنه "الرجل ذو الظل الأخضر.. ينبت فوق ضريحه قمحٌ جديد"، بحسب محمود درويش.
في الوسع، إذن، أن يُقال (مجدّداً؟)، والمناسبة هي الذكرى السادسة والأربعون لوفاته الأسبوع الماضي، إن جمال عبد الناصر يمثّل حالة إرباكٍ مستمرّة في الثقافة العربية، ذلك أن انعدام الديمقراطية ونقصان الحريات العامة ونوبات القمع والاعتقالات غير القليلة في عهده توازت كلها مع تحقّق إنجازاتٍ وطنيةٍ ونهوض تنموي كبير في مصر، ومع إنجاز مقادير ظاهرةٍ من العدالة الاجتماعية، وهذه كلها وغيرها هي من التطلعات التي يشتهيها المثقف العربي لبلاده وأمته. ومع التسليم العام بهذه الحقيقة، فإن ثمّة حقيقةً أخرى شديدة الوضوح، موجزها أن مصر شهدت، في زمن عبد الناصر على قصره (18 عاماً)، أرفع إبداعاتها في الآداب والفنون، ما قد يعد دليلاً على ما قاله جورج طرابيشي مرّة، إن من أهم الفنون ما تم إنجازه في عصورٍ غابت عنها الديمقراطية. ومن مفارقاتٍ كاشفةٍ، يقع عليها كتاب السويدية مارينا ستاغ "حدود حرية التعبير.. تجربة كتاب القصة والرواية في عهدي عبد الناصر والسادات" (ترجمة طلعت الشايب، شرقيات، القاهرة، 1995)، أنه، على الرغم من كثرة كتاب القصة والرواية في مصر الذين تعرّضوا للاعتقال في زمن عبد الناصر، إلا أنه لا توجد حالة حبسٍ واحدةٍ لأيٍّ منهم بسبب روايةٍ أو قصةٍ قصيرة بعينها. جميعهم كانوا يعتقلون لأسبابٍ سياسية، وليس بسبب كتاباتهم الأدبية، بل منهم من قال إنهم كانوا يتمتعون بقدرٍ كبير من حرية التعبير في الكتابة.
وقد يكون طريفاً، إلا أنه على قدرٍ من الإقناع، ما أخبر به يوسف إدريس مؤلفة الكتاب "لم تكن هناك حرية صحافة حقيقيةٍ، لكننا كنا نقبل ذلك، وكنا نحاول أن نقول للنظام أشياء كثيرة بطريقةٍ خلقت مدرسةً جديدة في الكتابة، يمكن أن أسميها الرمزية النشطة، تفهمينها ويفهمها القارئ، لكن الحكومة لا تفهمها". وهذا بهاء طاهر يقول لستاغ إنه كان، في عهد عبد الناصر، يعرف أن في مقدوره أن يقول ما يريد، وكان يستطيع ذلك بطريقةٍ ما. ويضيف "لم أكن علي أن أصرخ به عالياً، لكني كنت أقوله بطريقةٍ مؤثرةٍ، وكأني أصرخ به، وهذا، في النهاية، أفضل من الناحية الفنية". هو عبد الناصر الذي يتحمّل نظامه المسؤولية الأولى عن الهزيمة الكارثية في يونيو/ حزيران 1967 أمام إسرائيل، على الرغم من كل خطابياته التحشيديّة والتعبوية، والروح الوطنية والأنفاس القومية التي أشاعها في الأمة، غير أن جماهير عربيّة عريضةً غفرت له، وما زال يستوطن وجدانها الجمعي الموحد، بطلاً وزعيماً. هذا هو عبد الناصر في واحدٍ من وجوهه، فلا يصير غريباً أن يعفيه من حبسهم من أدباء وكتاب مصريين، ومن ذوي السويّة الإبداعية العالية، من المسؤولية عن حبسهم، بل وأن يزيّن آخرون جدوى فنيّةً أحدثها اختناقُ الحرية في زمنه. .. إنه "الرجل ذو الظل الأخضر.. ينبت فوق ضريحه قمحٌ جديد"، بحسب محمود درويش.
نيسان ـ نشر في 2016/10/02 الساعة 00:00