محمد الذنيبات بيروقراطي يجابه الليبراليين والإسلاميين

نيسان ـ نشر في 2016/10/08 الساعة 00:00
كتب محمد قبيلات...اشتغل المدرس الجامعي المعتَّق محمد الذنيبات ست سنوات في إصلاح القطاع العام. إذ عُيّن منذ عام 2001 وزير دولة لشؤون التنمية الإدارية، ولاحقا عُيّن وزيرا للتربية والتعليم، وبرتبة أعلى. تبوأ مركزا متقدما في الحكومة، وحافظ منذ سنوات، وحتى اليوم، على موقع نائب رئيس الوزراء إضافة إلى منصب وزير التربية والتعليم. أُستثني مما يثار من لغط شعبي حول الوزراء العابرين للحكومات، وسَلّمَ الجميع بأحقيته، عن جدارة، في حجز المقعد القيادي في التربية على مدى السنوات السابقة، وفي حكومات متعاقبة، لِما أبداه من حزم في معالجة العملية التربوية وضبطها، فقد بدأ بمعالجات حازمة للانفلات في امتحانات الثانوية العامة التي عرفت فوضى عارمة وعمليات “غش جماعي”، خلال السنوات السابقة لعهده، نتج عنها وصول طلاب أميين، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلى مقاعد جامعية وتخصصات مهمة. عودة البيروقراطية الذنيبات دخل قطاع التربية والتعليم بخلفيته البيروقراطية؛ حاملا شعار ضبط الانفلات وإعادة الهيبة للمدرسة والمعلم، وكان تكليفه بهذا الملف بمثابة التجاوز الواضح على كل النظريات التي جرّبت في هذا القطاع. ولقد أبلى بلاء حسنا، فأصبح أنموذجا للنجاح، استحوذ على المديح من مستويات الدولة كافة، نتيجة عمله الحثيث والدؤوب، ما جعل الانطباع العام لدى مطابخ القرار يستقر على أن الحل في القطاعات المنفلتة هو استحضار الرموز البيروقراطية، بأدواتها القديمة التي كان، ما يسميه الشارع “السيستم”، قد استغنى عنها ووضعها على الرفوف، وليس أكثر دلالة على هذه الفرضية من استحضار وزير آخر أيضا، من المدرسة ذاتها، وتسليمه حقيبة الداخلية. الذنيبات يعرف عنه الحزم في إصلاح العملية التربوية وضبطها، فقد بدأ بمعالجات جذرية للانفلات في امتحانات الثانوية العامة التي عرفت فوضى عارمة وعمليات "غش جماعي"، قبله، نتج عنها وصول طلاب أميين، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلى مقاعد جامعية وتخصصات مهمة لكن جولة التصفيق انتهت الآن، واستفاق الجميع على سلبيات هذه التجربة، فالامتحانات جزء من العملية التعليمية، وليست كلها، فلقد بات ملموسا الآن أن هذا التشدد في أدوات القياس والتقويم كدّس جيشا جرارا من المُعطّلين من العمل، لا يمتلكون أدنى المهارات، ما دعا المؤسسة التربوية إلى الانتقال لمستويات أخرى من الإصلاح والمعالجة، فبدأت بمحاولات، خلال السنوات الماضية، تمثلت بهيكلة التخصصات بعد الصف العاشر، واستحداث جديد، ثم إلغاء بعضها، برغم أنه تم إنشاؤها وسط حملة واسعة من التحفيز والترويج للتنظيرات الداعية لربط المخرجات التعليمية باقتصاد المعرفة وحاجات السوق، لكن من دون جدوى، فكل هذه المشروعات فقدت بريقها وهي في أوج جِدّتها. كما تم الحديث عن إعادة تأهيل المعلمين، لكن هذه عملية جبارة تحتاج إلى الكثير من الإمكانات غير الموجودة أصلا، وهذا يعيدنا إلى معهد التأهيل التربوي، الذي كان قد ألغي في وقت سابق، وهو معهد تابع لوزارة التربية تم تأسيسه لرفع كفاية المعلمين، وحقق الكثير في هذا المجال وعلى مدى سنوات طوال. تطوير المناهج أما تطوير المناهج، فهي معركة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، وهي التي فتحت الباب واسعا لنقاشات لها بداية، لكن لم تتضح معالم نهايتها بعد. نتج عن تلك النقاشات المفتوحة تغييرات انتقائية متعجلة في المناهج، لم تراعِ الحساسيات، بل زادت جنوحا تجاه تخفيف الخطاب القومي الموجه ضد إسرائيل، وغيره من الأخطاء التي تسببت بتغيير المنهاج المقرر لأحد الفصول الابتدائية مرتين في عام واحد. لكن التطور الأخطر هو أخذ ملف التطوير إلى نقاشات حادة بين التيارات الليبرالية والمؤسسات الدينية، وبدأت التراشقات بصليات أيديولوجية بين هذه التيارات، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل دخلت أيضا مستويات وفعاليات اجتماعية أخرى على خط الأزمة، أوصلت الأمر إلى حالة تجييش وتحشيد في الأطراف والمحافظات، وصلت حد تظاهر العشائر ضد التعديلات، وحرق الكتب في ساحات المدارس. الذنيبات خريج الجامعات الأميركية المرموقة، يحاول أن يمسك العصا من الوسط. فهو إداري تنفيذي، يبدع في سَلسَلة الإجراءات وضبطها بما يُنتج المستهدف من عملية التعليم الكلية، شريطة ألا يصطدم بأيّ تجاذبات للإجراءات من مراكز قرار مختلفة. فإن حدثت، وقد حدثت بالفعل، وقع الارتباك، وهذا على وجه التحديد ما تسبّب، كمؤشر على الارتباك، بتغيير مناهج الصفوف الابتدائية الثلاثة الأولى في عام 2015 والتراجع عن هذا التغيير في العام الذي تلاه. تعويم النقاشات اليوم؛ هناك مراكز قيادية حساسة في الدولة، تدفع باتجاه تحديث المناهج وتخليصها من النكهة الدينية، وهذا ما أثار غضب التيارات الدينية والمراكز المحافظة في الدولة، وأدى إلى خلق جو عام من التوتر المتسارع، لم يعد معه بوسع المعلم البيروقراطي ضبط الأمور. وهنا تحديدا، خرجت الأمور من غرف البحث والتخصص، إلى فضاءات الصراعات السياسية والأيديولوجية، ما أعطى للقصة بعدا اجتماعيا متأثرا بالدعاية السياسية بما تملكه من مياكنها الديماغوجية، التي تبتعد تماما عن الموضوعية في المعالجات. فصارت العملية برمّتها في مهبّ صراعات المصالح المُقنّعة بأقنعة المبادئ والأخلاق والقيم والحداثة، أو الالتزام بالدين؛ ليدفع جيل كامل الثمن باهظا لهذه التداعيات الناتجة عن صراع الإرادات المدفوعة بمطامعها الآنية أو الشكلية. يدافع الذنيبات عن فلسفة التربية، وسط اتهامات موجهة من قبل أكثر من طرف، مفادها افتقار المؤسسة التعليمية لفلسفة واضحة المعالم والخطوط، فهي اليوم مشدودة بين طرفين إلى أبعد مدى؛ الأول يريد التحديث والتطوير، والثاني يريد الحفاظ على المناهج كما هي بادعاء التمسك بالموروثات والحفاظ على الهُوية. مشكلة الطرف الأول أنه مخترق من قبل أجندات خارجية استطاعت أن ترمي عملية التطوير بدائها، وأوضح مثال على ذلك هو استبدال عبارة “سلسلة المجازر الإسرائيلية” بعبارة “سلسلة الممارسات الإسرائيلية” في أحد المناهج، ما أعطى الفرصة للمتربصين بوصم عملية تحديث المناهج بأقسى التّهم، وسهّل التحريض عليها واستثارة العواطف الشعبية ضدها، أما التيار المحافظ فمشكلته تكمن في كونه استسلم للنظرة السلفية، بل تورط في إضفاء هالة من القداسة على المناهج القديمة، فرفض التعديلات وراح يُصرّ على إدخال آيات من القرآن الحكيم حتى في دروس العلوم. هذه الأجواء أظهرت غياب الرؤية، ما تسبب بكل هذا التناشز بين أطراف غير معنية بشكل مباشر بالعملية التعليمية، وصارت ساحة من ساحات الصراع غير المنتج، بل المعطّل لأكبر عملية إنتاجية في الدولة، فكلّ هذه النقاشات لا تنتج إلا توازنات تعطل بناء منهجية تربوية مستقرة، والتربية والتعليم عملية حساسة ودقيقة، لا تحتمل التجريب أو مراعاة التوازنات على طريقة المحاصصات السياسية. ملف المناهج يتسبب في اندلاع جدل حاد بين التيارات الليبرالية والمؤسسات الدينية، وخلق حالة من التجييش وصلت حد تظاهر العشائر وحرق الكتب في ساحات المدارس أمة في خطر أصبحت اليوم مهمة المدرسة بناء العقل القادر على التحليل والتفكير والإبداع، لا حشوه بالمعلومات، فلا بد من صياغة رؤية تُركز على إنتاج مخرجات تعليمية مناسبة للعصر الذي نعيش فيه، وبما يتوافق مع الهُوية ويحافظ على مصالح الأمة، فالأمة الآن في خطر، وهذه ليست صرخة أميركية فقط، بل نحن الآن أيضا أحوج ما نكون إلى مراجعة متخصصة لا تحكمها أهواء أو تكتيكات بعض السياسيين. تقرير “أمّة في خطر” هو تقرير صدر في العام 1983، عن الإصلاح التعليمي في الولايات المتحدة الأميركية، صاغته لجنة من 18 عضوا في قطاعات التعليم المختلفة، وكان المسبب الرئيسي لإصداره، هو الشعور الذي ساد لدى القيادات الأميركية بضعف القدرة التنافسية للطلاب الأميركيين بالمقارنة مع الطلاب في البلدان المتقدمة الأخرى، في وقت اشتد فيه التنافس أيضا مع الاتحاد السوفييتي الذي ظهر تفوّقه العلمي جليا، ليس فقط في مجال الأسلحة النووية والحديثة، وإنما أيضا في سبقه لارتياد الفضاء الخارجي. فهل هناك ما هو أخطر على الأمّة من أن يطلق وزير التربية صرخة مفادها أن الأميّة تتفشى في المدارس وبنسب مرتفعة؟ تصفية الحسابات يقول الذنيبات إن هناك جهات تحاول النيل منه بسبب تضرّرها من سياساته وما أنتجت على مدى السنوات الفائتة، حيث تضرر بعض الأشخاص المتنفذين في الوزارة، وفقدوا مناصبهم. كما أن قطاع المدارس الخاصة شهد نزوحا حادا معاكسا، وبدأت فعليا الهجرة العكسية إلى المدارس الحكومية. وكذلك تضرّرت الجامعات الخاصة؛ نتيجة تشدّد الوزارة في الامتحانات وانخفاض عدد خريجي الثانوية، فأصبحت الجامعات الرسمية، ولأول مرة ومنذ زمن بعيد، قادرة على استيعاب الخريجين كافة، معنى هذا الحديث أن الظروف تهيأت لتكوّن جماعات ضغط توحّدها الأهداف، برغم اختلاف الأسباب بالنسبة إلى كل واحدة منها، لكنها وقفت جميعها صفا واحدا مناكفة لأيّ خطوة تخطوها وزارة التربية والتعليم. في المؤتمر الصحافي الذي عقد في مبنى رئاسة الوزراء، الأربعاء الماضي، ظهر نائب الرئيس وزير التربية والتعليم مدافعا عن المناهج في وجه التيار الإسلامي الذي يتهم الوزارة بتعشيب المناهج من أيّ مظاهر دينية، واستغرق في شروحات تثبت أن هناك الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي وشحت بها المناهج الدراسية جميعها، وللصفوف كافة، بما فيها الابتدائية. وهو بذلك قدم الإثبات، بالاعتراف الكامل، للجناح الليبرالي المطالب بتصفية المناهج من المظاهر الدينية، فلم يعبأ بمرافعات كثيرة قدّمها ودافع عنها أعلام وأسماء تربوية وإعلامية مرموقة، مثل حسني عايش وذوقان عبيدات ودلال سلامة، ولقد صرف الوزير جل اهتمامه للرد على الإسلاميين، فظهر، برغم كل التعديلات التي أجريت على المناهج، إسلاميا يواجه الإسلاميين بالحجة والموعظة الحسنة، ويفرد الإثباتات التي تؤيد الادعاء بأنه من المدرسة ذاتها، ولقد تراوحت ردوده بين المزايدة على الإسلاميين، بأنه يعتبر عمله وفريقه كله في وزارة التربية تقربا إلى الله تعالى، والاعتذارات المشفوعة بفضيلة الاعتراف بالخطأ، إن وجد، والاستعداد لتصحيحه. من جانب آخر، لم يُعِر الذنيبات اهتماما لعمل اللجنة المشكلة من كبار المختصين، وعلى رأسها خالد الكركي، التي عُهد إليها بتقويم الملاحظات الواردة على المناهج، فلم ينتظر نتائج مداولاتها وما ستتمخض عنه من توصيات، واعتبر أن الحملة المضادة حملة ظالمة، ودمغ كل من يعارض المناهج الجديدة بالانخراط في التحشيد ضد وزارة التربية، متغاضيا عن أن الحملة المناهضة للتعديلات كانت السبب في تشكيل هذه اللجنة التي اعتدّ بعملها وبكفاءة أعضائها. أيضا هناك الملحوظات المهمة التي أوردتها الملكة رانيا العبدالله في حضور العاهل الأردني عبدالله الثاني، وذلك في كلمتها التي ألقتها خلال حفل إطلاق “استراتيجية تطوير الموارد البشرية” الشهر الماضي، في عمان، حيث اتهمت الملكة المناهج التعليمية بالإخفاق الذي تترجمه الأرقام. وقالت، في أكثر من مناسبة “إن هناك مدارس كثيرة لا ينجح فيها أحد من الطلاب، كما أن الأرقام تشير إلى أن النجاح يحالف واحدا من كل أربعة طلاب يتقدمون لامتحان الثانوية العامة”، داعيةً إلى تنظيف المناهج من محفّزات التطرف. العرب اللندنية
    نيسان ـ نشر في 2016/10/08 الساعة 00:00