تفييش الهوامش
نيسان ـ نشر في 2016/10/21 الساعة 00:00
ذهب الشيخ الأعمى ليقدم العزاء في إحدى الحارات القديمة. وحين انتهى مقرئ الذكر الحكيم من تلاوة ما تيسّر له من الآيات. نسي أن يطفئ المايكروفون الذي كان يبث بصوت عال إلى عموم السكان في الحارة. ولكن الشيخ الأعمى لم ير هذا، فأخذ يحدث صاحبه عن بيوت الحارة بيتا بيتا، ورجلا رجلا وامرأة امرأة. وأخذ الناس يسمعون فضائحهم تردّد صداها الجدران.
يقال إن ذلك الشيخ الأعمى مريض جدا هذه الأيام. وحالته تتطلب العلاج خارج مصر التي تحتاج بدورها إلى علاج. ومن العرب لا يحفظ لهذا المبدع المصري القدير مكانة خاصة سواء كفنان أو كإنسان مبدئي لم يتخل يوما عن شخصيته التي ظهر بها على الشاشة. شاهدت فيلم “الكيت الكات” مع محمود عبدالعزيز ومع مخرجه الكبير داود عبدالسيد في دمشق ذات يوم. في إحدى صالات العرض في الصالحية.
كان الفيلم المأخوذ عن رواية لإبراهيم أصلان، عنوانها لا يقل حرارة عن تفاصيل الحكاية؛ “مالك الحزين” غير أن هذا ليس ما عبّر عنه الشيخ حسني في “الكيت كات”. عازف العود الأعمى الذي يأخذ الدنيا هكذا، مستهزئا بها، كما استهزأت به وخلقته بلا بصر لكن ببصيرة نافذة. كان محمود عبدالعزيز سعيدا جدا بالكيت كات، فقد تمكن من خلاله أن يقود دراجة نارية وهو أعمى، وتمكن من خداع شيخ أزهري أعمى أيضا، وإقناعه بأنه يبحر به على قارب في النيل، بينما كان يجدف على الرصيف ويهز جانبي القارب المربوط بحبل يهزه بيديه كي يوهم صاحبه بأن الموج يعلو ويهبط.
كل ما قدّمه محمود عبدالعزيز كان مختلفا. في فيلم “العار” ابتكر تعبير “تفييش الهوامش” للدلالة على فعل شيء لا يمكن الإفصاح عنه. وفي فيلم “الكيف” غنى عدة أغانٍ عبّرت مبكرا عما ستؤول إليه الأغنية العربية عموما. فكانت “تعالَ تاني في الدور التحتاني” أكثرها انتشارا بين الناس. في مهرجان دبي السينمائي أهدى محمود عبدالعزيز جائزة “إنجاز العمر” إلى الثورة المصرية وإلى الموسيقار الكبير الراحل عمار الشريعي صاحب الموسيقى البديعة في “رأفت الهجان”. وقال إن التغيير يجب أن يستمر، وفتح النار على الإخوان ومشروعهم، ورفض عودة رجال النظام المصري القديم.
مصري مثل محمود عبدالعزيز أكبر من الكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والفنية وحتى الدينية المقنّعة التي تشهدها مصر وغيرها اليوم. لم يترك جانبا دون أن يسلط عليه الضوء وينير ما يجب أن ينار منه للناس، وفي أحد مشاهد فيلمه “سمك لبن تمر هندي” قال له الطبيب النفسي إنه “غير متوافق مع المجتمع”، فأجاب محمود عبدالعزيز في خروج على النص “بذمّتك يا دكتور ده مجتمع يستاهل إن الواحد يتوافق معاه؟”. لا يقال لمحمود عبدالعزيز اليوم سوى “أوقاتا طيبة أيها القبطان” و”بوكرتوف أدون سمحون” و “بركاتك يا شيخ حسني، لابد من تفييش الهوامش ذات يوم”.
إبراهيم الجبين - العرب
نيسان ـ نشر في 2016/10/21 الساعة 00:00