عالم مليء بالتناقضات بلا أفق

سلامة كيلة
نيسان ـ نشر في 2016/10/27 الساعة 00:00
عاش العالم مرحلة "استقرار" خلال الحرب الباردة، وانحصر الصراع في الأطراف التي نزعت إلى الاستقلال، في ظل "تقابل" القطبين: الاتحاد السوفييتي والإمبريالية الأميركية. حيث كان لكل منهما معسكره، وكان يظهر أن العالم مقسوم مناصفة تقريباً.
كان الوضع يميل لمصلحة أميركا، مع بدء انهيار نظم حركات التحرّر، على الرغم من خسارتها الكبيرة في فيتنام. تمثل التحوّل الجوهري في انهيار البلدان الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، حيث ظهر أن الإمبريالية انتصرت "نهائياً". انهار هذا التصور مع انفجار الأزمة المالية سنة 2008، حيث ظهرت "حدود قدرة" الرأسمالية التي خرجت منتصرةً في الحرب الباردة، لكنها منهكة إلى حدّ كبير. ولقد أوجد التحولان وضعاً جديداً اتسم بالفوضى والتنافس، فقد أدت الأزمة إلى انكفاء أميركي، وضعف أوروبي ياباني، وتقدم روسي صيني، ومحاولاتٍ من دول أخرى، لكي تصبح جزءاً من القوى العظمى، واختلفت أولويات كل منها، وظهرت ميول متعدّدة، لتشكيل تحالفاتٍ لم تنجح بعد.
فالوضع العالمي يعيش الحالة بين الأزمة المستشرية ومحاولات الدول حلها كلٌّ على حساب الآخرين، أو أن يرسم تحالفاتٍ تخدم مصالحه على حساب الآخرين. لهذا، ومع تراجع قدرة أميركا على أن "تحكم العالم"، كما أرادت بعد انهيار الاشتراكية، مساراً جوهرياً لحلّ مشكلاتها على حساب العالم، وجدنا روسيا تتقدم لكي "ترثها"، أو على الأقل توازيها في "حكم العالم"، وتسعى الصين إلى أن تكون هي البديل. وتحاول دولٌ عديدةٌ التقدم لكي تكون في "القمة" مع القوى العظمى القديمة. الأمر الذي يشير إلى مرحلةٍ جديدة من "تقاسم العالم". لكن، في وضع انهياري، وليس كما كان مع بداية القرن العشرين، حينما كانت الصراعات تنطلق من تقاسم العالم بين دول صاعدة، وأخرى تريد الصعود. وفي مرحلةٍ كانت الرأسمالية نفسها في مرحلة صعودها وفرض سيطرتها على العالم.
فأميركا الإمبريالية تتراجع، لكنها تريد إعادة ترتيب سيطرتها، وضمان تحالفاتٍ تخدم هذه السيطرة، لكي تبقى القوة "الأولى" التي "تقود من الخلف"، كما كرَّر باراك أوباما. وأن تفسح مجالاً لدول أخرى، لكي تلعب دوراً مكافئاً أو "أقلّ قليلاً"، وهي تتخوّف من تقدم الصين، على الرغم من أن الصين التي تقدمت بشكل متسارع أصيبت بـ "مرض الرأسمالية الجديد"، ودخلت مرحلة الفقاعات المالية. وتريد أميركا، في هذا المجال، بناء طوق حول الصين ومنازعتها في مناطق توسعها (إفريقيا)، مع ضمان تحكمها في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وكذلك العودة إلى فرض هيمنتها على أميركا اللاتينية. وهي تساوم روسيا على "الشرق الأوسط"، مع ضبط توسعها الأوروبي في أوكرانيا، وربما مجال الاتحاد السوفيتي السابق. وروسيا تريد مجالها السوفيتي السابق و"الشرق الأوسط"، وربما تفكّر في العودة إلى بلدان أوروبا الشرقية. وتحاول إيجاد موطئ قدم في أميركا اللاتينية وآسيا الجنوبية.
حاولت فرنسا التوسع في "الشرق الأوسط" (سورية ومصر وليبيا)، وفي إفريقيا، لكي تستعيد سيطرتها القديمة أو تُمدِدها. وتبدو ألمانيا مكتفيةً بوضعها المهيمن في أوروبا.
بالتالي، ما يبدو أنه يثير الانتباه هو "الصراع" الأميركي الروسي، على الرغم من توافق الطرفين على ضرورة التوافق، وانطلاق روسيا من أنها باتت جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي، وأن دورها هو من داخله. ليبدو أن التصارع هذا لا يعدو أن يكون "عضّ أصابع"، يريد كل طرفٍ أن يحقق التوافق. لكن، في مصلحته هو. وربما تدخل الصين مجال التنافس هذا، خصوصاً وهي تسعى إلى تطوير قواتها وإيجاد قواعد عسكرية خارج حدودها، في سياق الدفاع عن مصالحها.
ماذا يمكن أن ينتج عن ذلك كله؟ نظام متعدد الأقطاب أو ثنائي القطب أو بلا أقطاب؟
تتمثل المشكلة الجوهرية في أن كل هذه الصراعات تجري، وكل هذا التنافس يجري، في لحظة أزمة لا حلّ لها، وهي تشمل كل هذه الدول. بالضبط، لأنها أزمة في بنية النمط الرأسمالي نفسه. أزمة هيمنة المال على الرأسمال، وبالتالي، التضخم غير العقلاني في القيم من دون أساس إنتاجي، ومن ثم نشوء الفقاعات وانفجارها تاركةً اقتصادات منهكة، وميلاً لدى الطغم الإمبريالية لحلها على حساب الشعوب.
    نيسان ـ نشر في 2016/10/27 الساعة 00:00