(الثورة البيضاء) في أميركا
نيسان ـ نشر في 2016/11/14 الساعة 00:00
نشر باحث السياسة الأميركي الراحل، صمويل هنتنغتون، في العام 2005، كتابه قبل الأخير "من نحن.. تحديات الهوية الوطنية لأميركا"، مشيراً فيه إلى تآكل الكتلة البيضاء التي كانت تمثل المكوّن الأساسي للمجتمع الأميركي منذ الاستقلال عن بريطانيا أواخر القرن الثامن عشر وحتى نهاية القرن العشرين. وقد حذر هنتنغتون من أن الصراع المقبل في أميركا سوف يكون بين هذه الكتلة البيضاء التي تحولت إلى أقلية، بفعل حركة المهاجرين وسياسات التعدّد الثقافي والهوياتي في أميركا، وبقية المكونات الإثنية والعرقية التي تشكل المجتمع الأميركي.
تبدو الآن نبوءة هنتنغتون كما لو كانت صحيحةً، خصوصاً بعد نتائج الانتخابات الأميركية التي أوصلت، أخيراً، المرشح عن الحزب الجمهوري، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، محمولاً على خطابٍ غارق في العنصرية والتعبئة العرقية والإثنية، بطريقةٍ تتناقض مع النموذج الأميركي الذي كان يقوم علي التعدّد الثقافي والإثني والديني، وشكّل ملمحاً أساسياً للديمقراطية الأميركية التي أخبرنا بها المؤرخ الفرنسي، أليكس دي توكفيل، في كتابه "الديمقراطية في أميركا". قطعاً، ليس القصد هنا أن التصويت في الانتخابات تم على أساس "عرقي" أو "إثني"، فالمرشحة المنافسة هيلاري كلينتون تنتمي أيضا للأقلية البيضاء. ولكن القصد هو استنفار ترامب مسألة العرق بشكل غير مباشر، عبر إبداء الكراهية والعداء تجاه أقلياتٍ عرقيةٍ ودينيةٍ أخرى كاللاتينو والمسلمين... إلخ.
وبينما يرى بعضهم أن ترامب استثمر في حالة الغضب الموجودة لدى الطبقة العاملة البيضاء، نتيجة سخطهم وغضبهم من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي تدعم الفئات والشرائح الغنية في المجتمع على حسابهم، والتي كانت هيلاري كلينتون تجسيداً لها، فإن مؤشرات الانتخابات تشير إلى أن حوالي 58% ممن صوّتوا لترامب ينتمون إلى الكتلة البيضاء، سواء من الرجال أو النساء أو طلاب الجامعات. وبينما تمثل الطبقة العاملة جزءاً رئيسياً من هذه النسبة، وكذلك الشرائح الأقل تعليماً، إلا أن هناك من ينتمون إلى الشريحة العليا، ويتمتعون بدرجاتٍ علمية جامعية، وما بعد جامعية، قد صوّتوا للمرشح الجمهوري. يقول أحد هؤلاء، وهو من أصول
بريطانية وعمره 62 عاماً، وحاصل على الدكتوراه في القانون، إنه صوّت لترامب "لأن ترامب يمثل جرس إنذار لتوعية الناس بخطورة نخبة واشنطن وفشلها في حل المشكلات"، وإنه، وهو شخص أبيض، "يعاني من التمييز في البحث عن عمل، بعد أن تقاعد بسبب عمره". الأكثر غرابةً أن هذا الرجل الذي تحدث لصحيفة الغارديان، من دون أن يذكر اسمه، يقول إنه "حتى لو ترامب سيئ مثل هتلر، إلا أنه سوف يعيد الاعتبار للأقلية البيضاء التي جرى تهميشها وتجاهلها طوال العقود الماضية". لا يختلف ما قاله هذا الرجل عما يشعر به ملايين الأميركيين الذين صوّتوا لترامب، خصوصاً في المناطق الريفية في أميركا، ولا سيما في ولايات الوسط الغربي والشرقي التي تصوّت دائماً للجمهوريين.
بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن ظهور ترامب، بخطابه العنصري التمييزي، قد تزامن مع وجود مظالم حقيقية اقتصادية واجتماعية لدى فئات وشرائح واسعة من الطبقة العاملة، خصوصاً الموجودة خارج المدن الكبيرة. وهي المظالم التي خلفها النموذج الرأسمالي الأميركي، الذي يعمل لصالح أصحاب الشركات والأعمال الكبيرة، ولا يكترث لأصحاب المهن والحرف والصناعات الوسيطة. لذا، لا غرابة أن تعد أميركا من أكثر بلدان العالم التي لا تتمتع بالمساواة والعدالة في توزيع الدخل. وقد نجح ترامب، بخطابه المناهض شكلاً لهذا النموذج، في توظيف مظالم هذه الفئات، من أجل استثارة غضبها ضد غريمته، هيلاري كلينتون، المحسوبة بشكل كبير على شبكات الثروة والأعمال في واشنطن ونيويورك. لذا، فإن التصويت الأكبر لترامب جاء من المقاطعات الصغيرة والقرى الريفية، والتي كان يصوّت بعضها للديمقراطيين عادة، وذلك كما الحال في بنسلفانيا وميتشيغان وويسكنسون وأوهايو.
وفي وقت كان الحزب الديمقراطي يعبّر، تاريخياً، عن هذه الطبقة العاملة، إلا أن الانتخابات كشفت، أخيراً، تراجع هذه المسألة بشكل كبير. فكثير من كبار الأعضاء في الحزب أصبحوا أكثر ارتباطاً بعالم رجال المال والأعمال في "وول ستريت"، وكذلك برجال الإعلام والسياسة في نيويورك وواشنطن. ما أثر على صورة الحزب، وساهم في تراجع شعبيته بشكل كبير. وتجسّد ذلك في خسارته الرئاسة والكونغرس بغرفتيه (النواب والشيوخ). ومن المفارقات أن ترامب الذي يعد من أكبر رجال الأعمال في أميركا، وهو ذو علاقات وثيقة بعالم المال والأعمال، فضلاً عن فضائحه المالية، أصبح كما لو كان هو المعبّر عن مظالم الطبقة العاملة في أميركا.
بكلمات أخرى، يمكن تفسير نجاح ترامب، من بين عوامل أخرى، بأمرين: استنفار شعور القومية البيضاء، والشعبوية الاقتصادية. وقد كشفت تظاهرات بعض مؤيدي ترامب بعد فوزه عن الأمرين. كما أنهما ساهما في جعل ترامب المرشح الجمهوري المفضل من بين كل المرشحين الجمهوريين الذين نافسوه في مرحلة الانتخابات التمهيدية على مستوى الحزب. وقد وصل الأمر إلى الحديث عن هوية جديدة اسمها "الترامبية"، نجح ترامب في خلقها، في هجومه المستمر علي الأقليات والأعراق والإثنيات الأخرى. وهي مزيج من الشعور بالسمو العرقي، والغرور الشخصي، ورفض ثوابت المجتمع الأميركي، لصالح رؤية ضيقة ومنعزلة عن العالم.
نيسان ـ نشر في 2016/11/14 الساعة 00:00