فيروز آخر أيقونات العرب
نيسان ـ نشر في 2016/11/26 الساعة 00:00
العرب بقلم توفيق الحلاق
واشنطن - يحتفل العرب بميلاد أيقونتهم فيروز بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر. لكنّني شخصياً كان لي احتفالي الخاص بها قبل سنوات طويلة. وأردت أن أكتب عنه اليوم، من أجل فيروز ومن أجل محبي فيروز.
كان لقاء فيروز بالنسبة إليّ، حلماً تحقق. حظيت قبلها بلقاءات مهمة مع فنانين وأدباء ذائعي الشهرة ويمثلون حالاً فريدة في التميز مثل أمين معلوف ومحمود درويش وحنا مينة والشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم والمطربة صباح والمخرج يوسف شاهين وعشرات غيرهم.
لكن شاعرة الصوت فيروز مختلفة جداّ. إنها أيقونة كل البيوت العربية ومدارسها وأسواقها، وهي التي تشرق مع شمس الصباح، وتتفتح مع ورد الشبابيك، وتغنّي مع العصافير على أفنان أشجار الشوارع.
كنت قد كلّفت بإجراء مقابلة مع فيروز بعد أن تخرج من بيروت لحظة انتهاء الحرب، في طريقها إلى القاهرة من أجل حفل كبير سيكون الأهم في ذلك الوقت.
لقاء على وقع القذائف والصواريخ
حين أزف الموعد في فندق مينا هاوس المصري العريق وعلى شرفة تقصّدنا أن تطلَّ على أهرامات الجيزة كنت قلقاً ألاّ تأتي فيروز في الموعد. تماما كما حدث لي وأنا أنتظرها قبل يومين على مشارف الحدود اللبنانية السورية في قرية جديدة يابوس فجراً. وكنا في نهاية صيف عام 1989.
كنت قد وصلت الحدود ولما تشرق الشمس بعد. أصوات المدافع وطلقات الرشاشات كانت تصل إلى سمعي، فأشعر بالخوف على فيروز من أن تتعرّض لمكروه على الطريق، لكن فيروزاً كانت الإنسان الوحيد في لبنان الذي اجتمعت كل الميليشيات اللبنانية المتحاربة على محبته. كانت أغانيها تذاع في كل إذاعاتهم وسط جحيم الحرب الأهلية المستعرة منذ خمسة عشر عاماً.
أقبلت فيروز أخيراً. وكنت المكلف الوحيد باستقبالها ومرافقتها براً إلى مطار الملكة علياء في الأردن ثم جواً من هناك إلى مطار القاهرة.
لم تكن قد رأتني على شاشة التلفزيون من قبل، لا هي ولا ابنتها ريما التي كانت ترافقها، لكن صديقتها الأثيرة سلمى تذكرت برنامجي “السالب والموجب” وحدّثت فيروز عنه بحرارة.
كنت أراقب حركاتها، ابتساماتها الخجولة الهادئة، وأغبط نفسي على تلك الحظوة. هي الآن ضيفتي وحدي وأنا من سيقود موكبها المؤلف من حوالي ثلاثين عازفا موسيقياً مع آلاتهم وفرقة الكورال التي تضم ثمانية من الصبايا والشباب. وسوف أكون في السيارة التي أمامها مباشرة وسوف ننطلق وسط حشد من المسافرين الملوّحين الفرحين برؤيتها عن قرب.
بين دمشق ودرعا كان هناك مطعم صيفي يتوقف فيه المسافرون للراحة. توقف موكب فيروز اللافت بسياراته العشر، وحين اكتشف الرواد المنتشرون تحت ظلال الأشجار وجودها هرعوا إليها مثلما يفعلون عندما يلتقون أغلى أحبتهم بعد غياب طويل.
لم تحاول أيّ سيدة منهم ضمّها إلى صدرها بالرغم من رغبة الكل في ذلك. لأن فيروزاً كانت في مخيالهم أقرب إلى الملاك منها إلى البشر. قالوا لها كلاماً رقيقا صادقا مثل: الدنيا بلاكي موحلوة يا ستنا.
بدت فيروز في اللقطات التي صوّرناها هناك متواضعة خجولة تردّد بضع عبارات الشكر المحبة مثل “الله يخليلنا محبتكم”. وقد وقّعت العشرات من الأوراق التي دفعت إلى كفيها قبل أن نغادر إلى مركز درعا الحدودي مع الأردن. المئات من الأشخاص العائدين والمغادرين من الأردن وإليه تحلقوا حول سيارتها وكذلك من موظفي الهجرة والجمارك والأمن. خرجت من سيارتها ووقفت بينهم تبتسم وتردد “الله يخليكن، الله يبارك فيكن”. نفس المشهد تكرر في الجانب الآخر من الحدود. الأردنيون أيضاً يحبون فيروز. لكن تفتيش موكبها كان إجراءً فظاً يصعب تبريره. أنزل عناصر الجمارك كل ما حوته السيارات من آلات موسيقية وألبسة إلى الأرض وجرى تفتيشها بدقة وبرود استغرق أكثر من ساعة فيما كنا فيروز وسلمى وريما ومايسترو الفرقة توفيق باشا وصديقي محمد الغامدي وأنا، ننتظر في مكتب الضابط المسؤول، وقد اقتربت منه وقلت هامساً: هذه فيروز وهذه فرقتها ولا يجوز أن تضعها في مثل هذا الموقف؟ قال مبتسماً “لن يتأخروا نحن آسفون لكنّها الإجراءات”.
على أرض مصر
كنت أخشى أن تغضب فيروز وتقرر العودة، لكنها كانت هادئة، صابرة، وهي ربما عبّرت عن استيائها بأن اعتذرت بلباقة عن شرب القهوة. تكرر مشهد الحفاوة البالغة بها في مطار الملكة علياء قبل أن نصعد إلى الطائرة، وفي الطائرة ترك الكثيرون مقاعدهم وجاؤوا إليها لتوقع على دفاتر مذكراتهم وليتصوروا إلى جانبها.
وصلنا فجرا إلى مطار القاهرة وكانت هناك بالصدفة مجموعة من الفلسطينيين القادمين من فلسطين المحتلة، ما إن رأوها حتى هرعوا يطوّقونها بالحب والفرح والدموع. كان وزير الثقافة المصري فاروق حسني على رأس مستقبلي فيروز. قال وهو يستقبلها “مصر ترحب بك”. قالت باقتضاب “شكراً لك، وأنا مشتاقة لمصر وأهلها”.
سوف تسكن فيروز على مدى خمسة أيام في نزل فخم واسع من فندق مينا هاوس العريق والذي كان بناه الخديوي إسماعيل باشا في العام 1869 والذي لعب دوراً مهماً في تاريخ مصر، وأقام به عدد من الشخصيات العالمية مثل ونستون تشرشل وأغاثا كريستي وفرانك سيناترا إلى جانب القمتين الفنيتين أسمهان وأم كلثوم وغيرهما. ولعلهم جميعاً سكنوا ذات جناحها الذي ستدعو إليه أصدقاءها من الفنانين والأدباء أمثال محمود درويش.
البيت المقصوف
كنا نجلس في صالة الاستقبال الفسيحة على محيط الجدران بانتظار قدومها. وهي دخلت إلينا مثل سيدة منزل بسيطة وصافحت كلاّ منا بحرارة وهي تذكر الاسم: أهلا محمود، أهلاً سعيد، ثم تسأل: شو بتحب تشرب؟ بعد ذلك غابت لتعود وهي تحمل طبقاً كبيراً اصطفّت عليه الكؤوس والأكواب وقد امتلأت بما رغبنا وطلبنا.
كانت المفاجأة في طريقتها بتقديم تلك الضيافة لضيوفها. فقد ركعت بحملها أمام الشخص الأول فصار رأسها تحت رأسه وفي مقابل كفيه وقالت: تفضل. خجل الرجل وخجلنا معه ووقفنا جميعاً كي لا تعيد الكرّة معنا وسألتها “سيدة فيروز، لقد أخجلتنا بتواضعك”، قالت بود “ما بيصير صاحب البيت يكون راسو فوق راس الضيف”.
سوف أدهش مرات أخرى بطريقة تعاطيها مع الحياة والناس والكون. روت لي سلمى أن بيت فيروز في المنطقة الشرقية من بيروت تعرض لقذائف عشوائية من المتقاتلين ما اضطرها للانتقال إلى بيتها الثاني في بيروت الغربية الذي ما لبث هو الآخر أن تعرّض للقذائف ولم يبق منه سوى غرفة واحدة عاشت فيها مع ابنها هالي وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة والذي كان يحتاج إلى عناية متواصلة قامت بها فيروز رافضة مساعدة أحد. قالت سلمى أيضاً “كنت أجلب لها الماء والغاز وما تحتاجه تحت الخطر”. أما فيروز فقد وصفت سلمى برفيقة الدرب وتوأم الروح أثناء حواري معها أمام الكاميرات الثلاث في تلك الشرفة من فندق مينا هاوس.
قبل ليلة من موعد اللقاء حدث أن كانت مائدتي وزوجتي والمخرج وزوجته إلى جانب مائدتها التي ضمت ابنتها وصديقتها وأشخاصاً آخرين لا أعرفهم. فجأة توقف المذيع المصري الشهير مفيد فوزي وخلفه كاميرا تلفزيونية ومصور محترف خفيف الحركة وقال لفيروز بصوت جهوري “يا ست فيروز بيسألوني إنتا مسيحي ولا مسلم. تعرفي جوابي بيكون إيه؟”. فوجئت فيروز بشخص لا تعرفه بالرغم من أنه اشتهر بلقب مذيع الرئيس حسني مبارك وكبير المذيعين.
هزت رأسها متسائلة. بينما هو استمر قائلاً “بألهم أنا ديني فيروزي”. أطرقت فيروزاً خجلاً وتواضعاً كما بدا لي فيما شعرت أن الرجل سرقها منّي وهي ستفضل لقاءه بدلاً عنّي. لكن الذي حدث أن فيروزاً اعتبرت كلامه أسلوباً مغرياً لاصطياد الضيوف وهي لا تحب أن تكون صيداً لأحد وهكذا أبلغتني سلمى أن فيروز استقرت على إجراء الحوار معي من بين حوالي مئة مذيع وصحافي كانوا يلهثون مثلي للقائها.
فيروز تتحدث عن نفسها
اتصلت سلمى بي في ذات الليلة وطلبت مني تجهيز الأسئلة وإرسالها لفيروز. ولأني ما اعتدت كتابة الأسئلة لضيوفي ولخوفي ألاّ تعجبها الأسئلة فترفض اللقاء اتفقت مع سلمى أن تعدّل في أسئلتي بما يروق لفيروز. وهكذا نجحنا في الحصول على موافقتها. كل شيء كان جاهزاً على الشرفة، قال المخرج العراقي عدنان إبراهيم إن لدينا ثلاث كاميرات وإضاءة جيدة ومايكرفونين صغيرين وكان خلفنا منظر الأهرامات الثلاثة تنيرها الشمس التي كانت تغرب على مهل بعد عصر ذلك اليوم.
كنت مذيعاً محترفا وتجاوزت مرحلة القلق في مواجهة الكاميرا والضيوف بعدما أنجزت حتى ذلك التاريخ أكثر من ألفي ساعة تلفزيونية من المقابلات والريبورتاجات. مع ذلك شعرت في تلك اللحظات بالقلق عندما أعلن المخرج “نحن جاهزون، أربعة، ثلاثة، اثنان، تفضلوا”.
انتظرت فيروز سؤالي الأول مثل حمامة في مواجهة لفحة هواء ساخنة. لم تكن تجيد اللعب بالألفاظ لتصل إلى غايتها، بل إنها تجيب بتلقائية الطفل الذي يقول ما يشعر به. من يتابع ذلك اللقاء النادر سوف يؤكد هذا التشبيه.
قالت فيروز إن غناءها يعبّر عنها، وإنّ محبة الناس هي التي تجعلها تغني بمشاعرها ومن قلبها. وقالت رداَ على سؤالي “لماذا لم تغادري لبنان وقد تعرضت للخطر وعشت ظروفاً معيشية يصعب احتمالها ومع ذلك رفضت دعوات من كل زعماء العرب؟”، قالت “مافيي أترك لبنان”. سألتها “وماذا فعلت عندما قصف بيتك الأول ثم الثاني ومعك ابنك هالي الذي يحتاج رعاية خاصة؟”، أجابت “ولاشي كنت أقعد ساكته وصلّي”.
أعتقد أن فيروز حال استثنائية بين المغنين حول العالم. تنازلت عن أجرها في حفلات القاهرة لأنَّ نصف المقاعد حجزها المسؤولون مجاناً، وخسر المتعهّد بدل أن يربح. هكذا وصلها الخبر فقالت “أنا مابدي شي بس عطوا الموسيقيين والكورال حقهم”. كان مسرح الصوت والضوء في منطقة الأهرامات قد غص بعشرة آلاف متفرج ومثل هذا العدد من الفقراء كانوا يعتلون الأسوار المحيطة به. ثلاث ليالٍ غنت فيها فيروز. وكانت تختم كل ليلة بأغنية “أنا صار لازم ودعكم”. فتدمع عيون الجمهور، لكنها تعود لتغني “بكرة برجع بوقف معكن إذا مش بكرة البعدو أكيد. إنتو حكوني وأنا بسمعكن، حتى لولا الصوت بعيد”.
لكن صوت فيروز لم يكن بعيداً في أيّ يوم من الأيام. ولن يكون، مهما مر الزمن ومهما تقدم بها العمر الشاب المزهر دائماً.
نيسان ـ نشر في 2016/11/26 الساعة 00:00