بانتظار صادق جلال العظم
نيسان ـ نشر في 2016/12/04 الساعة 00:00
أمّا وأن صادق جلال العظم يطّلع، وهو على سرير الشفاء في برلين، على ما يقدّمه إليه المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين التي يرأسها بشأن 'ما يستجدّ من نشاطاتٍ وأعمال'، بحسب بيانٍ أصدرته الرابطة أول من أمس، فذلك يبعثُ على إشاعة الأمل بأن يتجاوز المفكّر المعروف حالته الصحيّة الصعبة، بل والأمل أيضاً بأنْ يُواصل، ما أمكن، حضورَه مثقفاً شجاعاً في المشهد العربي الخربان، فنتلقّى نحن، قرّاؤه وتلاميذه ومحبّوه، جديد أفكارِه ومطالعاته في غير مسألةٍ راهنة، خصوصاً وأنه كان واحداً من قلائل معدودين من المثقفين العرب جهروا، بأناقةٍ فكريةٍ عاليةٍ، بانحيازهم الثقافي والأخلاقي إلى الجماهير العربية، في أثناء صيحتِها من أجل التحرّر من الاستبداد والطغيان، في لحظةٍ كاشفةٍ في درس المثقف العربي، حالةً ودوراً، أي إبّان انتفاضات الربيع العربي، وفي غضون ما أعقبها من ثوراتٍ مضادّة نشطة. اتّسق المفكر الماركسي المتجدّد، العلماني الديمقراطي، صاحب المقولات النقدية والجذرية في أزمنة تقديس الأوهام والبطولات العابرة، مع خياراتِه الأولى التي بنى عمارته الفكرية عليها منذ نحو خمسين عاماً، أو بتعبيرٍ آخر جائز، مع انتسابه إلى العقل النقدي، والتفكير العلمي، وأيضاً عندما أقامَ على احترام مخالفيه وخصومِه، فكان ديمقراطياً بحقّ، فاستحقّ المكانة الخاصة التي حازها في منجز الفكر العربي الحديث.
لا شطط في الاجتهاد أن عدم إدراك النخبة العربية، السياسية والمثقفة، الجوهريّ في كتابي صادق جلال العظم، 'النقد الذاتي بعد الهزيمة' (1968) و'نقد الفكر الديني' (1969)، كان من أسباب تدحرج الحالة العربية، والفلسطينية في صدارتها، إلى القاع الذي تمكثُ فيه الآن، ولا تنفكّ تُسرع في المضي نحو مزيدٍ منه. ولا تزيّد في الزعم أن ندرة نموذج العظم بين أهل الثقافة والفكر والأدب العرب الآن واحدٌ من مظاهر اختلال حالة الأمة، وانحطاطها المريع الحادث بين ظهرانينا، عندما يبلغ الأمر بمثقفين من أهل اليسار، ومن أصحاب الصوت العالي (سابقاً) في المناداة بالديمقراطية، ومن أهل الاشتغال بالجمال في منجزاتهم الأدبية والفنية، أن يُداهنوا العسكر المستبدّين القتلة من الحكام، وأن يصمتوا عن جرائم مشهودة، وأن يمارسوا بناء المواقف والانحيازات السياسية بمنطق المكايدة والمناكفة والثأرية، وذلك كله بدعوى الحرب ضد الإسلاميين التي يُؤثرونها على أي نشاط آخر.
ليس في وسع أيٍّ من هؤلاء المنكشفين أن يزاود على صادق جلال العظم في علمانيّته، وفي حروبه الفكرية الرفيعة، السجالية، ضد الإسلاميين من ذوي الخرافات والأوهام، لكن الرجل عندما استجدّت لحظةٌ عربية خاصة، كان صوتاً نظيفاً في مناهضة الاستبداد، وفي الاصطفاف مع شعبه السوري في ثورته، ثم في المحنة الراهنة التي يُغالبها هذا الشعب جرّاء الفتك والتشريد والإرهاب والاحتلال. وبمطالعتك الحوار المطوّل مع العظم، والذي أنجزه صقر أبو فخر، وضمّه كتابٌ صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر قبل نحو عشرين عاماً (صدرت طبعته الثانية في العام 2000)، تقف على رقيّ الرجل وتواضعه الرفيعيْن، في إجاباته على أسئلةٍ بشأن ما أنجز وأنتج وكتب، ومن ذلك تنويهه بمشايخ وعلماء دين انخرطوا في نقاشٍ 'جدّي وحقيقي وعقلاني' مع كتابه الزوبعة 'نقد الفكر الديني'، حتى في هجومهم عليه ورفضهم محتوياته. ويشير باحترامٍ إلى ما كتبه الشيخ المجتهد محمد جواد مغنية، وما قاله مفتي طرابلس في حينه العلامة الشيخ نديم الجسر، وكذا الإمام موسى الصدر. وإذ يسأل (في 1997 ربما) أين نحن الآن من هذا المستوى؟ فإن السؤال نفسه يجوز الآن في العام 2016 بشأن موتورين كثيرين، يعتصمون بالصمت بشأن جرائم قدّام عيونهم، في مصر وسورية وغيرهما، أو يباركونها أحياناً، صدوراً عن أوهام أيديولوجية، وخصوماتٍ بائسة، وتشنج أهوج، وغير ذلك من أمراض مثقفين عربٍ غير قليلين، لا أظنهم قرأوا صادق جلال العظم جيدا، ولا تعرّفوا إلى مقولاته وأطروحاته، والتي لا يُشار إليها هنا صدوراً عن إجلالٍ أعمى، بل صدوراً عن تقديرٍ لأهميتها، وعن مخالفةِ تفاصيل فيها. ثمّة جولاتُ سجالٍ أخرى، تنتظر المفكر الكبير، عندما يبرأ مما هو فيه.. قريباً إنْ شاء الله
لا شطط في الاجتهاد أن عدم إدراك النخبة العربية، السياسية والمثقفة، الجوهريّ في كتابي صادق جلال العظم، 'النقد الذاتي بعد الهزيمة' (1968) و'نقد الفكر الديني' (1969)، كان من أسباب تدحرج الحالة العربية، والفلسطينية في صدارتها، إلى القاع الذي تمكثُ فيه الآن، ولا تنفكّ تُسرع في المضي نحو مزيدٍ منه. ولا تزيّد في الزعم أن ندرة نموذج العظم بين أهل الثقافة والفكر والأدب العرب الآن واحدٌ من مظاهر اختلال حالة الأمة، وانحطاطها المريع الحادث بين ظهرانينا، عندما يبلغ الأمر بمثقفين من أهل اليسار، ومن أصحاب الصوت العالي (سابقاً) في المناداة بالديمقراطية، ومن أهل الاشتغال بالجمال في منجزاتهم الأدبية والفنية، أن يُداهنوا العسكر المستبدّين القتلة من الحكام، وأن يصمتوا عن جرائم مشهودة، وأن يمارسوا بناء المواقف والانحيازات السياسية بمنطق المكايدة والمناكفة والثأرية، وذلك كله بدعوى الحرب ضد الإسلاميين التي يُؤثرونها على أي نشاط آخر.
ليس في وسع أيٍّ من هؤلاء المنكشفين أن يزاود على صادق جلال العظم في علمانيّته، وفي حروبه الفكرية الرفيعة، السجالية، ضد الإسلاميين من ذوي الخرافات والأوهام، لكن الرجل عندما استجدّت لحظةٌ عربية خاصة، كان صوتاً نظيفاً في مناهضة الاستبداد، وفي الاصطفاف مع شعبه السوري في ثورته، ثم في المحنة الراهنة التي يُغالبها هذا الشعب جرّاء الفتك والتشريد والإرهاب والاحتلال. وبمطالعتك الحوار المطوّل مع العظم، والذي أنجزه صقر أبو فخر، وضمّه كتابٌ صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر قبل نحو عشرين عاماً (صدرت طبعته الثانية في العام 2000)، تقف على رقيّ الرجل وتواضعه الرفيعيْن، في إجاباته على أسئلةٍ بشأن ما أنجز وأنتج وكتب، ومن ذلك تنويهه بمشايخ وعلماء دين انخرطوا في نقاشٍ 'جدّي وحقيقي وعقلاني' مع كتابه الزوبعة 'نقد الفكر الديني'، حتى في هجومهم عليه ورفضهم محتوياته. ويشير باحترامٍ إلى ما كتبه الشيخ المجتهد محمد جواد مغنية، وما قاله مفتي طرابلس في حينه العلامة الشيخ نديم الجسر، وكذا الإمام موسى الصدر. وإذ يسأل (في 1997 ربما) أين نحن الآن من هذا المستوى؟ فإن السؤال نفسه يجوز الآن في العام 2016 بشأن موتورين كثيرين، يعتصمون بالصمت بشأن جرائم قدّام عيونهم، في مصر وسورية وغيرهما، أو يباركونها أحياناً، صدوراً عن أوهام أيديولوجية، وخصوماتٍ بائسة، وتشنج أهوج، وغير ذلك من أمراض مثقفين عربٍ غير قليلين، لا أظنهم قرأوا صادق جلال العظم جيدا، ولا تعرّفوا إلى مقولاته وأطروحاته، والتي لا يُشار إليها هنا صدوراً عن إجلالٍ أعمى، بل صدوراً عن تقديرٍ لأهميتها، وعن مخالفةِ تفاصيل فيها. ثمّة جولاتُ سجالٍ أخرى، تنتظر المفكر الكبير، عندما يبرأ مما هو فيه.. قريباً إنْ شاء الله
نيسان ـ نشر في 2016/12/04 الساعة 00:00