حكاية عاشق من القوقاز

مالك عثامنة
نيسان ـ نشر في 2017/03/31 الساعة 01:00
أواخر القرن التاسع عشر..كانت قرية 'آتشن' الشيشانية، وكباقي قرى وحواضر الشيشان، منقسمة بين قرارين، لا حلو بينهما. كان قصف جيوش القيصر قصف إبادة..وتطهير عرقي..وكان الآمنون في بيوتهم وقراهم قد انقسموا بين رأي يقول بالهجرة وترك بلاد الأجداد..ورأي يصر على البقاء حتى لو كانت نهايته الموت تحت نار القيصر. في 'آتشن'..كانت عائلة 'أحماد' الصغيرة، قد قررت الهجرة وترك الوطن، والالتحاق بقافلة الصباح التالي المتجهة إلى تركيا ثم إلى أرض 'شام شريف'. 'أحياد' ابن احماد..كان الأكثر تمزقا وتشظيا لقرار الهجرة، كانت ليلته الأخيرة في قريته ووطنه..حافلة بالانفعالات والانشغالات. كان 'أحياد' قد قرر ان يودع حبيبته 'منو' تحت شباكها، وقد قرر أهلها البقاء لا الهجرة..وكان في أعماق نفسه يتمنى يائسا لو تحدث معجزة ما تمنع أباه من قرار الهجرة..!! في الجزء الأخير المتبقي من الليلة الأخيرة، وبعد توضيب الأغراض، توجه أحياد إلى بيت 'منو' في الطرف الآخر من القرية، قبل أن يوقفه صوت أبيه الجهوري في باحة البيت وبلهجة آمرة أمره ان لا يغادر قبل ان يغرس شتلات الجوز المرمية في طرف الباحة في الأرض. حاول احياد الاحتجاج، متعللا أنهم مهاجرون، وما النفع من غرس شتلات جوز في باحة بيت سيهجرونه. لكن احتجاجه الخافت لم يصمد امام نظرة الإصرار في عيني أبيه. وبسرعة، غرس أحياد الجوز في الأرض..واتجه مسرعا إلى منزل محبوبته، يودعها..وربما يقنعها بالخطيفة. ** تحت شباك المنزل..كان احياد يقف ويستمع إلى همس 'منو' من خلف النافذة، وهي تحاول حبس دموعها على الفراق المحتوم. كان يبثها لواعج قلبه، ووجع الفراق..ويتمنى لو ان الليل لا ينتهي. وحين أدرك الإثنان، ان اللحظة حانت، بكت 'منو' بحرقة، وناولها أحياد منديله لتمسح دموعها، وطلب منها المنديل، ولفه بعناية وطواه في جيب صديريته..وغادر بدون ان يلتفت إلى الوراء. ** ..وبدأت رحلة الهجرة، فجر اليوم التالي، وكانت عائلة احماد من بين المهاجرين إلى' شام شريف'...في رحلة استمرت شهورا طويلة، مات فيها من مات، ومرض من مرض..واجتاحت الأوبئة والكوارث قافلة الهجرة في طريقها الشاق والمضني..وقرر الكثيرون البقاء في تركيا حيث دفنوا أحباءهم..بينما واصل الباقون مسيرتهم نحو شام شريف..ومن بين هؤلاء..أحياد..العاشق المنكسر القلب.. ..وفي أرض يقال لها عين الزرقاء..جنوب الشام، استوطن أحياد وأهله، واستصلح أرضا ليعمل عليها بالزراعة...وتزوج بعد حين من 'بيتمت'..وأنجب عياله وبنى لهم بيته الواسع في موطنه الجديد، لكن بقي قلبه في المكان الذي استودع ذاكرته فيه، هناك، في الشمال القصي، حيث 'منو' والقرية..ووطن الأجداد. ** مرت اعوام طويلة جدا..عقود تلو عقود من السنوات، وكان احياد قد هرم وكبر..وكانت الفترة في اواخر السبعينات من القرن الماضي، حين قرر الإتحاد السوفييتي، السماح لشعوب الشيشان في المهاجر..زيارة موطن اجدادهم. كان 'خليل' ..اكبر اولاد أحياد، ممن تملكهم الشغف بزيارة موطن أبيه، فاستأذنه ذات يوم..بزيارة موطن الأجداد. نظر أحياد إلى اكبر أولاده نظرة عميقة، أذن له على شرط أن يزور 'آتشن' والبيت القديم..ويرى أحواله وربما ساكنيه الجدد..ثم يعرج على المقبرة ليبحث عن قبر 'منو' ويقرأ الفاتحة على روحها. ** ..بعد شهر، عاد خليل إلى بيته في مدينة الزرقاء الأردنية، عاد من سفر طويل إلى موطن الأجداد، حيث الشمال القصي..حيث موطن النسور المحلقة فوق جبال القوقاز. جمع احياد أولاده جميعا، قبل ان يبدأ خليل بسرد الحكاية من أولها..وحين اجتمعوا، أشار الأب إلى بكره بالبدء. فرد خليل منديلا أمام أبيه، وكانت فيه حبات جوز..من باحة البيت الذي كان لهم. وقد سكنه أناس جدد. تأمل أحياد حبات الجوز، أمسك إحداها بين يديه، تلمسها بعناية ولطف..هي الشتلات التي غرسها ليلة الرحيل،كادت الدمعة ان تفر..وبقدرة ما أمسكها وأمسك حزنه. سأل خليل عن القرية..ما الذي تغير فيها..خارطة طرقها، البيت نفسه..ثم وبتدرج يتصاعد مع نبض القلب العجوز، سأل ابنه عن المقبرة: هل قرأت الفاتحة على قبر 'منو'؟ 'كلا'..رد خليل..ثم أردف كي لا يصبح الجواب عصيانا على امر الوالد: لقد زرت 'منو' في بيتها، لأنها لم تمت. وتابع خليل بقية الحكاية، عن 'منو'، التي زارها وقد أصبحت عجوزا فقدت بصرها، ولها من الأولاد والأحفاد كما لأحياد..وقد ترملت منذ سنوات، وتعيش مبتهجة في كنف أولادها.وكيف أنها حضنت خليلا وعانقته وبللت رأسه بالدموع..ثم حملته السلام والشوق لأحياد..في بلاده البعيدة. استمع أحياد للحكاية بصبر شديد..ولا زالت الدمعة ذاتها تحاول الفرار من عينيه..وحين أنهى خليل حكايته...أشار أحياد إليه بأن يخرج صندوقا من تحت السرير..وتناوله أحياد وفتحه..وأمام أولاده جميعا، فتح الصندوق المطعم بالصدف..وأخرج منه منديلا مطويا بعناية شديدة.. كان المنديل الذي طويت داخله دموع 'منو' ليلة الوداع..وعلى طياته، طوى أحياد لعقود طويلة ذاكرته، ذاكرة العاشق الذي لم ينس..ولن ينسى حتى يموت. أحياد، مثله مثل أي قوقازي، فارس في العشق..نبيل في الحب. وللقوقاز حكايات كثيرة تتواترها الأجيال شفاها..جيلا بعد جيل.. وأنا، ابن القوقازية، كغيري، أحفظ الكثير الكثير من الحكايات، تماما مثل حكاية جدي 'أحياد'. ومثل غيري..سأحكي الحكايات كلها لابنتي كي تحكيها..
    نيسان ـ نشر في 2017/03/31 الساعة 01:00