معارك مصر بين الأوهام والحقائق
نيسان ـ نشر في 2015/06/17 الساعة 00:00
الحاجة أصبحت ملحة لإعادة النظر فى ترتيب الأولويات بين معارك النظام ومعركة المجتمع، لكى نتجاوز أوهام الأزمة إلى ملامسة حقائق الواقع.
(1)
سأل الإعلامى الشاب ضيفه: هل انت مدرك لحجم المؤامرة على مصر؟.. لم يتح لنا ان نستمع إلى إجابة السؤال، لأن الحلقة التى تابعنا بعض عناوينها فى حملة الترويج لها لم تبث تليفزيونيا. لكن سؤال المؤامرة ليس جديدا، لأن الإشارة إليها تكررت مرات عديدة خلال الأشهر الماضية من خلال معلومات ظلت المصادر السيادية مصدرها الوحيد. ومن يتابع أخبار الصحف المصرية خلال العام الأخير لابد أن تثير انتباهه الملاحظة. إذ قرأنا كثيرا عن تآمر أجهزة مخابرات الدول الغربية مع بعض الدول العربية وتركيا لإسقاط النظام المصرى تارة، ولحرق مصر فى قول آخر. وفى بعض الأحيان فإن المختلف مع النظام المصرى أصبح يصنف على الفور جزءا من المؤامرة أو منتسبا إلى الطابور الخامس. وهى التهمة التى لاحقت الدكتور محمد البرادعى ووائل غنيم ونشطاء ثورة ٢٥ يناير وحركة ٦ أبريل، إضافة إلى المنظمات الحقوقية وممثلى الإخوان الذين أصبحوا فصيلا ثابتا فى كل مؤامرة.
أفرق بين التجاذبات والصراعات الحاصلة بين المحاور المختلفة فى العالم العربى، وبين المؤامرات التى تدبرها أجهزة مخابرات الدول الكبرى، وتشارك فيها دول أخرى متجاوزة بها تناقضاتها مثل تركيا وإسرائيل. التجاذبات الأولى لا تسرنا لا ريب وتحزننا بكل تأكيد، لكنها صارت إحدى سمات الصراعات العربية العربية التى تصاعدت مؤشراتها فى ظل انهيار النظام العربى، وبعدما فقدت الدول العربية الكبرى عافيتها وهيبتها والبوصلة الهادية لها. إلى غير ذلك من الأجواء التى فتحت الباب واسعا لتدخلات اللاعبين الجدد الذين حاولوا لعب الأدوار وتبؤ صدارة المشهد.
وإذ أزعم أن قدرات أولئك اللاعبين الجدد وممارساتهم أقل من ان توصف بأنها مؤامرات ــ (ربما كانت كلمة مشاغبات أدق وأصوب) ــ فإن الكلام عن «حجم» المؤامرات يشير ضمنا إلى دور للدول الكبرى التى ما برحت تسريبات الأجهزة السيادية المصرية تشير إليها فى حديثها عن اجتماعات لأجهزة استخباراتها فى إحدى القواعد العسكرية بألمانيا أو فى بعض العواصم الأوروبية الأخرى.
أسلم ابتداء بأن الدول الغربية ليست منزهة عن التآمر، لكنها تلجأ إليه حين تدرك أن الطرف الآخر يعارض مصالحها أو يهددها. ولا أظن أن ممارسات أو سياسة النظام المصرى يمكن ان تصنف تحت أى من العنوانين. وكل التباينات أو الخلافات بين مصر الآن وبين أية عاصمة غربية، بما فيها واشنطن ــ لم تمس جوهر العلاقات أو المصالح. من ثم فالتآمر غير وارد ومفتعل. لذلك أزعم أن المؤامرة الغربية فى حقيقتها ليست سوى شائعة أطلقتها المؤسسة الأمنية وروجت لها أبواقها، للإيحاء بأن النظام القائم له قامته ومشروعه الذى يتحدى به الغرب ويهدد مصالحه. وهو ما يدفع عواصمه للتآمر عليه والسعى لإسقاطه. وهدفها من ذلك هو استنفار الرأى العام المصرى وحثه على الالتفاف حول النظام بدعوى حمايته من تلك المؤامرات.
(2)
إذا صح ذلك التحليل، فإنه يستدعى على الفور السؤال التالى: ماذا عن دعم بعض الجهات الغربية وواشنطن بوجه أخص لجماعة الإخوان؟
هذا السؤال أجاب عليه آلان جريش خبير الشئون العربية المخضرم ورئيس تحرير مجلة «لوموند دبلوماتيك» السابق، وكنت قد سمعت رأيه فى لقاء سابق معه، لكنه فصَل فيه خلال حوار أجراه معه الزميل محمود القيعى ونشره موقع «رأى اليوم» فى ٩ يونيو الحالى. وقد عرض وجهة نظره فى النقاط التالية:
< الأصل أن الدول الغربية مع مصالحها بالدرجة الأولى. وهى مع الديمقراطية ومستعدة للترحيب بها فى العالم العربى إذا جاءت بأى طرف يحافظ على تلك المصالح ويخدمها. وإلا فلتذهب الديمقراطية إلى الجحيم. أستثنى من ذلك الدول الإسكندنافية التى لا تزال أكثر تشددا فى الدفاع عن الديمقراطية.
< فى الوقت الراهن الذى تزايد فيه نفوذ التنظيمات الإسلامية المتطرفة مثل داعش، فإن الدول الغربية أصبحت مستعدة لمساندة الأنظمة الديكتاتورية ودعمها، كما انها تفضلها على الإسلاميين خصوصا أن الإسلاموفوبيا (الخوف من الإسلام) متجذرة فى المجتمعات الغربية.
< الغرب يتعامل مع مصر من باب القبول بالأمر الواقع، ذلك أن سياسات الدول لا تقوم على المبادئ وحدها. وفى الحالة الأمريكية خصوصا وعلى عكس الشائع فى الإعلام المصرى، فالترحيب أكبر والعلاقات أقوى مع النظام المصرى بأكثر مما كانت عليه فى ظل حكم الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك. ذلك ان هناك تحالفا حقيقيا بين مصر وإسرائيل. والدور المصرى فى سيناء يمثل تأمينا لإسرائيل ترحب به وتؤيدها فى ذلك الدول الغربية وواشنطن.
< فكرة الحرب على الإرهاب طرحها نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل فى السبعينيات، وكان يستهدف بها منظمة التحرير الفلسطينية. لكنها اتخذت بعدا جديدا بعد احتلال الأمريكيين للعراق فى عام ٢٠٠٣. وإحدى مشكلات الفكرة انها مفتوحة وبلا حدود، وهى أقرب إلى إعلان الحرب على شبح الإرهاب الذى لم يعد له أى معنى سياسى فضلا عن أنه أصبح مدخلا لقتل آلاف المدنيين الأبرياء.
< القول بأن الإعلام الأوروبى منحاز إلى الإخوان كلام فارغ. وهو ما أبلغت به المسئولين المصريين، ردا على تساؤلاتهم، والحقيقة أن ١٠٠٪ من الإعلام الأوروبى ضد الإخوان، كما ان النسبة ذاتها تنتقد الرئيس السيسى. أما الدول الأوروبية فمواقفها متناقضة. ذلك انها تحت ضغط الخوف من الإسلاميين أصبحت أقرب إلى تأييد الديكتاتوريات العربية.
< رغم أن الدول الغربية تتعامل مع مصر انطلاقا من التسليم بالأمر الواقع، إلا أن مواقفها متفاوتة إزاء طريقة التعامل مع الإخوان، وهذا التفاوت ظهر أيضا فى سياسة حلفائها مثل السعودية والإمارات، ولا يستطيع أحد أن ينكر أو يتجاهل دور الإخوان فى الحياة السياسية، فلن تحل مشكلة سوريا إذا استبعد الإخوان، كما ان مشكلة اليمن لا حل لها دون حزب الإصلاح الذى يمثل الإخوان (وذلك حاصل فى ليبيا أيضا).
(3)
ثمة التباس آخر يلفت النظر إليه الباحث الفرنسى أوليفيه روا صاحب الدراسات العديدة حول حركات الاحياء الإسلامى، (له عدة كتب ترجمت إلى العربية مثل الجهل المقدس ــ اخفاق الإسلام السياسى ــ نحو إسلام أوروبى... إلخ). ذلك انه نشر مقالة فى مجلة اسبرى (عدد ٣٠/٥/٢٠١٥) أشار فيها ضمن أمور أخرى إلى أهمية التفرقة بين الحركات الجهادية وبين الإسلام السياسى. معتبرا انهما ليستا شيئا واحدا، فالأولى ولدت من العولمة فى حين ان الثانية تمثل صياغات إسلامية حداثية ووطنية.
درس الرجل تجربة الإسلام السياسى فى أربع دول هى: مصر والهند وإيران وتركيا، وخلص إلى أن الجماعات الإسلامية الكبرى التى نشطت فى تلك الدول لم تتبن سياسة العنف والغلو الذى عبرت عنه تيارات التشدد الأخرى. وذكر أن عبدالله عزام الذى اعتبر أحد قادة الجهاد ضد السوفييت فى أفغانستان هو ابن الإسلام السياسى وأحد أبرز الداعين إليه. لكن الرجل قتل هناك فى ثمانينيات القرن الماضى لأنه عارض اتجاه العنف وكراهية الغرب الذى قاده أسامة بن لادن وجماعته.
فى رأيه أن الإمارات الإسلامية على شاكلة دولة «داعش» فى سوريا والعراق ليس بينها وبين الدولة الإسلامية التى يتطلع إليها دعاة الإسلام السياسى شبه أو صلة. فسمتها الأولى تتمثل فى افتقارها إلى أبنية دولة. وتقوم فى مناطق تغلب عليها القبائل، وتربطها صلة وثيقة بانحلال الأنظمة القبلية وتجددها فى باكتسان وأفغانستان واليمن وأفريقيا جنوب الصحراء، من ثم فهى من مظاهر العولمة العابرة للحدود والمتجاوزة للهويات. وهو ما يعنى أن حيزها الجغرافى الاستراتيجى لا يشبه من قريب أو بعيد حيز الحركات الإسلامية الوطنية، الذى تعد حركة حماس فى قطاع غزة من نماذجها.
فى تحليله لا يدافع الرجل عن الإسلام السياسى وإنما دعا إلى التمييز بينه وبين الحركات الجهادية التى تتوسل بالعنف فى تحقيق أهدافها. وفى رأيه ان طريق الإسلام السياسى قد ينتهى بالتفاعل مع الديمقراطية كما هو الحاصل فى تركيا وتونس، وقد ينتهى إلى الديكتاتورية التى اعتبر أنها متمثلة فى إيران.
(4)
طوال السنتين الأخيرتين تقريبا، ظلت هذه المعارك الوهمية والمثيرة للغط ضمن العناوين الرئيسية للفضاء المصرى. وصارت الشاغل الرئيسى الذى من أجله استنفر وحشد الرأى العام، وعُبِئ المجتمع واستنزفت طاقاته. فى هذا الصدد لا مفر من الاعتراف بأن الجهد التعبوى الكبير الذى بذل حوَل تلك العناوين إلى مسلَمات وثوابت لا تقبل المناقشة أو المراجعة. حتى بات الإقدام على مغامرة من ذلك القبيل مخاطرة كبرى تكلف صاحبها ثمنا باهظا ليس من جانب السلطة فحسب، وإنما أيضا من جانب بعض شرائح المجتمع التى دخلت فى السياسة بعد الثورة ولوث البث التليفزيونى التعبوى إدراكها. ومن المفارقات ان فرصة الباحث للتعرف على خرائط الواقع السياسى المصرى فى ظل تلك الأجواء أصبحت متاحة له من الخارج بأفضل منها فى داخل البلاد. والشهادتان اللتان أوردتهما للفرنسيين آلان جريش وأوليفيه روا تعبران عن ذلك التفاوت. ذلك انهما يقدمان قراءة مناقضة ومختلفة تماما لما يبدو أنه «مسلَمات» فى الخطابين السياسى والإعلامى بمصر.
اهتزت الصورة فى الآونة الأخيرة. ذلك ان انفجار قضية انهيار الخدمات الصحية فى المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية كان بمثابة جرس إنذار نبه إلى عمق مشكلة انهيار عموم الخدمات التى تقدمها الدولة فى مختلف المجالات. وأهمية هذا الجرس أنه بمثابة دعوة إلى الإفاقة، لفتت الانتباه إلى أن المعارك المشهرة عناوينها فى الفضاء السياسى هى معارك النظام بالدرجة الأولى، وان المجتمع له معاركه المختلفة، ولأن الأخيرة تتعلق بالصحة والتعليم والإسكان والتنمية الاقتصادية وغيرها، فهى ما ينبغى أن يحتل الأولوية وصدارة الاهتمام، الأمر الذى لا يتطلب إعادة النظر فى الأولويات فحسب، ولكنه يقتضى أيضا إعادة النظر فى وجهة التفكير ومحوره.
إن أخشى ما أخشاه فى ظل استمرار تهميش دور المجتمع وتغييب مؤسساته الفاعلة ان تستغرقنا وتستنزفنا ــ وتنهكنا ــ معارك النظام التى تشغل الناس بالأزمات الوهمية والافتراضية، بحيث تصرفنا عن الاهتمام بمشكلات المجتمع الحقيقية. ولا سبيل إلى تصحيح ذلك الوضع إلا بفتح الأبواب للاستماع إلى صوت المجتمع لأنه وحده التعبير الصادق عن الحقيقة. ولأن ذلك الصوت مغيب ومحبوس، فليتنا نرفع عاليا فى عام الرئاسة الثانى شعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المجتمع."
نيسان ـ نشر في 2015/06/17 الساعة 00:00