المصير العربي في مفترق الطرق

فهمي هويدي
نيسان ـ نشر في 2015/06/23 الساعة 00:00
مجمل التطــورات التي نشاهدها تطــرح بقوة السؤال الآتي: هل يمكن أن يصبح العالم العربي أثراً بعد عين؟ مسوغات السؤال تطرحها المشاهد الأربعة الآتية. (1) ـ المشهد الأول: يحتار المرء ولا يعرف هل يضحك أم يبكي حين يتابع المناقشات التي جرت في مؤتمر «هرتسليا» حول مخاوف إسرائيل من تصاعد الحملة الأوروبية الداعية إلى مقاطعتها أكاديميا واقتصاديا، فيما يجد أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يراهن على تعزيز تحالفه مع العالم العربي. وهي مفارقة تكتسب عمقا خاصا إذا تذكرنا ان الطرف العربي كان يوما ما يعتبر أن فلسطين قضيته المركزية وان إسرائيل عدوه الاستراتيجي الأول. لا يتسع المجال لاستعراض المناقشات التي جرت حول المخاوف الإسرائيلية من التحولات الأوروبية، في ما خص المقاطعة ومآلاتها (شمعون بيريز اعتبرها من أشكال الحرب). لكني وجدت تعبيرا عن تطلعات نتنياهو في التقرير الذي نشرته «الإيكونوميست» البريطانية في عدد 13 حزيران-يونيو الحالي. وقد وجدت ان أفضل ترجمة لعنوانه هل ان العرب والإسرائيليين أصبحوا «في الهوى سوا»، كما يقول المثل المصري الشائع. ذلك ان المجلة الرصينة رصدت مظاهر العداء بين الجانبين وانتقالهما إلى طور التفاهم والتعاون الذي تحول إلى تحالف غير معلن. فتحدثت عن المشاركة السعودية والإسرائيلية العلنية في أحد المؤتمرات البحثية التي عقدت في واشنطن في الرابع من شهر حزيران-يونيو (الإشارة إلى اللواء السابق أنور عشقي رئيس أحد المراكز البحثية في جدة الذي ظهر في الصور وهو يصافح دوري غولد أحد أبرز مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد صرح الأخير بأن ذلك ليس أول لقاء بينهما ولكنه الخامس). إلا أن التقرير أشار إلى أن العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية لها تاريخ، ذلك ان الطائرات الإسرائيلية أسهمت في نقل المرتزقة الذين كانوا يحاربون إلى جانب الملكيين من قواعدهم في السعودية ضد الجيش المصري الموجود في اليمن في ستينيات القرن الماضي. كما أن الأمير بندر بن سلطان كان على اتصال بالإسرائيليين في ثمانينيات القرن الماضي أثناء عمله سفيراً لدى واشنطن. ونوّهت إلى أن الأمر ليس مقصورا على السعودية، لأن النظام السوري بقيادة حافظ الأسد وابنه بشار حافظا على سلام إيجابي مع إسرائيل ولم يطلقا رصاصة واحدة على إسرائيل منذ أربعين عاما، فيما قام الجيش السوري بتدمير مخيم اليرموك الذي يقطنه الفلسطينيون في دمشق. كما ان الرئيس عبد الفتاح السيسي ذكر في حوار صحافي أنه تحدث كثيرا مع نتنياهو أثناء الاجتياح الإسرائيلي لغزة العام 2014 وكان له موقفه الحازم في مواجهة حركة «حماس». ونقل التقرير على لسان رجل المخابرات الإسرائيلية السابق يوسي ألفر ان الجميع في العالم العربي أقبلوا على شراء طائرة «درون» الإسرائيلية بغير طيار. من المعلومات المهمة التي ذكرها التقرير أيضا ان نتنياهو يراهن على تعويض المقاطعة الأوروبية بصداقاته المتنامية من العرب. واستشهد في ذلك بنتائج استطلاع للرأي أجرته أخيرا إحدى المنظمات الإسرائيلية حول اتجاهات الرأي العام في السعودية، وتبين منه ان 18 في المئة من العينة تعتبر إسرائيل عدواً، و22 في المئة قالوا ان «داعش» هو العدو، في حين ان 53 في المئة قرروا ان العدو هو إيران. وبرغم الحذر الواجب في التعامل مع تلك النتائج والجهة التي أجرت الاستطلاع وتوقيته من حيث تزامنه مع بروز الدور الإيراني في اليمن، فإن دلالاتها لا يمكن تجاهلها. (2) ـ المشهد الثاني: في أجواء الالتباس، أصبح السؤال «من هو العدو» وارداً وباب الاجتهاد فيه مفتوحا. لن تستطيع ان تأخذ على محمل الجد الشطحات التي ترددت في الفضاء الإعلامي المصري مشيرة إلى ان العدو هو «الإخوان» تارة وحركة «حماس» تارة أخرى، لأنها كانت تعبيرا عن الغلو في الشيطنة المتأثرة بالصراع السياسي الحاصل في مصر، إلا أن ما أثاره الإعلام الخليجي والسعودي منه بوجه خاص جدير بالملاحظة. ذلك ان المخاوف التقليدية من الطموحات الإيرانية، تضاعفت بعد الظهور الإيراني في الساحة اليمنية، ومع احتمالات الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني بين طهران وواشنطن. إزاء ذلك برزت إيران في صدارة المشهد وتراجع تراجعاً ملحوظاً العامل الإسرائيلي، حتى ان الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي السابق استخدم في بعض البيانات الصادرة عنه مصطلح الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي (لا العربي). في تقييم الموقف الإيراني، ذهب معلقو النخبة السعودية أربعة مذاهب. الأول اعتبر ان إيران هي العدو وهو رأى تردداً في الإعلام الخليجي وتبنته بعض الكتابات المصرية. الثاني ذكر ان إيران عدو جاهل وإسرائيل عدو عاقل (أنور عشقي) ـ الثالث اعتبر ان إسرائيل عدو بذاتها، أي أنها ولدت عدوة للعرب في حين أن إيران عدوة بأفعالها بمعنى أن «الثوة الإسلامية» لم تولد معادية للعرب ولكنها أصبحت كذلك بممارساتها اللاحقة (خالد الدخيل). الرابع قيل بأن إيران عدوة بأفعالها، ولكن العداء ينبغي أن يظل محصورا في دائرة نظام طهران وليس عموم الشعب الإيراني المسلم والشقيق (داود الشريان في جريدة «الحياة» وجهاد الزين في «النهار» البيروتية). ما يستخلصه المرء من هذا العرض أن إسرائيل لم تعد العدو الأول ولا بقيت العدو الأوحد. ولكن إيران أصبحت منافساً لها. وخطورة هذه الخلاصة تكمن في أنها تسوغ غض الطرف عن الجهد الحثيث الذي تبذله إسرائيل لابتلاع كل فلسطين وسحق الفلسطينيين. وتوسيع دائرة التطبيع مع العرب. والأخطر من ذلك أنها لا تكتفي بتأجيج الصراع بين العرب والإيرانيين، ولكنها تفتح الأبواب لصراع كارثي بين السنة والشيعة لا حدود لها يهدر طاقات الطرفين ويهزمهما معا. (3) ـ المشهد الثالث: كما أصبح مصطلح العدو الإسرائيلي والقضية المركزية من عناوين الماضي المعرضة للاندثار، فإن المصير ذاته بات يلاحق مصطلح الأمة الواحدة. بل ان الشواهد التي بين أيدينا تدل على أننا أصبحنا نحاول جاهدين الإمساك بتلابيب مصطلح الوطن الواحد. فالتحليلات المنشورة تتعامل مع تقسيم العراق باعتباره واقعا فرض نفسه، وبعضها يتحدث عما بقي من سوريا، في حين ان التمزق جار على قدم وساق في اليمن وليبيا، وهو حاصل في لبنان الذي فشل في انتخاب رئيسه بسبب التجاذب بين الفرقاء. وكان السودان سباقا إلى التمزق بعد انفصال الجنوب واستمرار حركات التمرد في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، ونسأل الله ان تنجو الجزائر من التمزق بعد رحيل رئيسها المريض عبد العزيز بوتفليقة. لكن ذلك كله في كفة وفرقعة كردستان الكبرى في كفة أخرى. وقد أطلق الفرقعة اللواء السعودي السابق أنور عشقي الذي سبقت إلى الإشارة إلى أنه يدير أحد المراكز البحثية في جدة، إذ ذكر في مؤتمر واشنطن الذي عقد لمناقشة «التحديات الإقليمية» ما يلي: يجب ان نعمل على إيجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية، لأن من شأن ذلك ان يخفف من المطامع التركية والإيرانية والعراقية. إذ ستقتطع دولة كردستان الكبرى ثلث إيران وثلث تركيا وثلث العراق، على الأقل، فذلــك نص ما ورد في مــقالة نشرتها جريدة «الشروق» في 12/6 الحالي، وكتـــبها زميلنا محمد المنــشاوي الخبير بالشؤون الأميركية ومراســل الجريدة في واشنطن الذي حضر مناقشة الموضوع. لا أستبعد ان يكون السيد عشقي قد عبّر بما طرحه عن رأيه الشخصي واجتهاده الخاص، لكننا نفهم أن أفكارا بتلك الخطورة حين تطرح في السعودية لا تكون بعيدة عن موقف السلطة وتوجهاتها. أضف إلى ذلك أن فكرة الدولة الكردية ليست مبتدعة ولا مستحدثة. فهي مضمرة ومعلنة في الخطاب الكردي منذ سنوات عدة. وقد نقل زميلنا الأستاذ الشناوي عن رئيس ديوان مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق قوله ان الأخير بحث موضوع الدولة الكردية مع الرئيس أوباما أثناء زيارته لواشنطن. وأضاف أن أعضاء مجلس الكونغرس يرحبون بالفكرة ويحبذونها. أما إسرائيل فهي تشجعها بكل ما تملك من نفوذ وقوة، خصوصا ان لها علاقات قديمة مع الأكراد، ولها نشاطها المكثف في أربيل الذي كان سرياً واستخباراتياً قبل احتلال العراق العام 2003، وأصبح مشروعاً وشبه علني بعد الاحتلال وحتى الوقت الراهن. فكرة كردستان الكبرى، وان بدت خيالية في الوقت الراهن، إلا ان الظروف باتت مواتية لطرحها بعد الانفصال الواقعي في العراق، وبروز دورهم في سوريا، والانتصار الذي حققوه في الانتخابات التركية الأخيرة، حيـــث فرضوا أنفسهم على البرلمان لأول مرة في تاريخــهم واحتلوا 13 في المئة من مقاعده. لكن الأهم من ذلك، وما يعنـــينا في الموضوع، ان فتح ذلك الملف من شأنه ان يحدث انقلابا في خرائط المنطقة، الأمر الذي من شأنه ان يفجر حربا شرسة يمكن ان تستمر مئة عام، لأن انتزاع الأراضي التي يعيش عليها الأكراد في تركيا وإيــران وسوريا والعراق ليســـت بالأمر الهين. لكنه يظل ضمن المستحيلات التي باتـت واردة في أجواء الانــفراط والتحلل المخيمة على الــعالم العربي. (4) المشهد الرابع: فيما ينفرط عقد العالم العربي وتتفتت دوله وتتآكل خرائطه، تظل للزعماء العرب «قمة» تنعقد بانتظام، وللأمة «جامعة» يفترض أن تكون واجهة لها، من دون ان يكون للقمة والجامعة صلة بما يجري على الأرض، كأنه يحدث في قارات وكواكب أخرى، الأمر الذي حوّل هذه الكيانات إلى أشباح لماضٍ تجاوزته الأحداث وعفّى عليه الزمن. ومن خلال اختبارات عدة، اكتشفنا أن العناوين التي ملأت الفضاء العربي يوما ما عن الأمة الواحدة والمصير المشترك والقضية المركزية كانت مجرد صياغات لغوية عبرت عن طموحات لبعض الحالمين من ذوي النيات الطيبة، وتعثرت طول الوقت محاولات تنزيلها على أرض الواقع. وأدركنا ان العالم العربي أصبح عوالم متعددة، وصار جسما بلا رأس، حتى ما بدا كأنه عمل مشترك، فإنه ظل قناعا يخفي في طياته حسابات ضيقة وخاصة. وكانت فرقعة القوة العربية المشتركة التي هلل الإعلام لها قبل أسابيع عدة، بابا لتصفية حسابات الأطراف (مصر في ليبيا والسعودية في اليمن) ولم يكن فيها شيء مشترك، وصارت الفكرة نموذجا للمفارقات الفادحة في العالم العربي، التي ســعت بمقتــضاها بعض الدول إلى حماية نظمها من جيرانها أو شعوبها، فيـــما تركــت للــدول الغربية الكبــرى مهمة حمايتها ضد خصومها. في الفراغ المخيم ما عاد للعالم العربي الذي دخل مرحلة الأفول الكبير وزن أو قول، الأمر الذي أغرى بعض الصغار بأن يتطاولوا في البنيان ويحاولوا صنع المقادير. إلا أننا اقتنعنا في وقت متأخر بأن الاصغار لا تصنع رقما وان الأقزام مهما بلغ عددهم لا يصنعون عملاقا، ومن رحم الأزمة وعمق المعاناة كان الدرس الذي اســـتوعبه الجميع هو ان مــــصر هي المشكلة وهي الحل. وغدا السؤال المحير والمعذب هو: متى يمـــكن ان تستعيد مصــــر عافيتها لكي تسترد موقعها الشاغر وتثبت حضورها بعد طول غياب؟ وهــــو محير لأن هذا الأمل يبدو بعيدا، ومعذبا لأن أفقه يبدو مسدودا. ....................... المصدر : السفير اللبنانية
    نيسان ـ نشر في 2015/06/23 الساعة 00:00